الصفحات

الجهوية المتقدمة و أنماط الحكامة الترابية بالمغرب

الجهوية المتقدمة و أنماط الحكامة الترابية بالمغرب



تطورت أنماط التعامل مع مفهوم التنظيم الترابي و الفكر الجماعي بالمغرب تبعا لمحطات مفصلية في تاريخ بلادنا حيث جاءت معالمه على شكل إمارات مستقلة طغى عليها النظام القبلي خلال فترة القرطاجيين فسادت الروح الجماعية و كان القرار للجماعة و بإسمها. 

و في عهد الرومان، نعمت بعض الحواضر المغربية كوليلي و طنجة بنوع من الإستقلال الإداري في حين ظلت البوادي خاضعة لنظام المجالس القروية. و لم يستطع التواجد الوندالي أن يغير من الأعراف التدبيرية أي شيء حيث احتفظت التجمعات السكنية بأعرافها الإدارية الخاصة بها.

و بعد دخول الإسلام إلى المغرب، كان الشعار الديني هو الحبل المتين بين مناطق النفوذ في تداخل مع نظام القبيلة. غير أن مفهوم الجماعة بدأ يتبلور كتنظيم سياسي بغية التخفيف من الطابع القبلي، خاصة في الحواضر. و مع تطور الدولة المغربية، بدأ مفهوم التدبير الترابي يأخذ أشكالا و أنماطا تطورت لكنها تباينت ما بين الأدارسة مرورا بباقي الأسر التي حكمت المغرب و انتهاء بالعلويين.

ففي عهد الأدارسة كان عدد الوزراء قليلا مقارنة بما كانت عليه بلاد الأندلس,و كان أغلب ولاة الأقاليم يعينون من الأمازيغ و العرب على السواء. و في عهد المرابطين كان للملوك وزراء مركزيين بمراكش و وزراء إقليميون, خاصة بالأندلس. و قد كان عمال الأقاليم يخضعون لسلطة النواب الجهويين بمساعدة ولاة محليين و كتاب. و كان لهؤلاء العمال سلطات ممتدة مدنيا و عسكريا, مع وجود محتسب يقوم بمراقبة كل شيء من الأسعار و الأسواق و التموين إلى جمع الضرائب و الزكوات و انتهاءا بتعيين أئمة المساجد. 

و في عهد الموحدين, كان إلى جانب السلطان قاض خاص بالعاصمة هو بمثابة المحكمة الدستورية الحالية, حيث كان ينظر في مدى قانونية كل المسائل التي تعرض على الخليفة. كان النظام الإقليمي الموحدي صورة مصغرة للنظام الإداري المركزي و كان كبار الموظفين يتلقون تكوينا ثقافيا و إداريا قبل التعيين. و قد استمر دور الحسبة و القضاء على أهميتهما حيث كان القضاة ينظرون في كل النزاعات و يشرفون على جمع الزكوات, في حين كلف المحتسب باستخلاص الجبايات.

أما خلال فترة الحكم المريني فقد أحاط السلاطين أنفسهم بأجهزة مركزية لتسيير شؤون البلاد و العباد, غير أن بوادر لا مركزية واسعة بدأت تلوح في الأفق حيث قسمت البلاد لعمالات عدة. و كان العمال يعينون من الأمراء المرينيين وكذا من خارجهم. في حين ظلت الشؤون البلدية المرتبطة بالمباني و الأملاك خاضعة لسياسة قرب واضحة لا يتدخل فيها العمال كثيرا لأن مهمتهم كانت ذات طابع اقتصادي و أمني بالدرجة الأولى, و تكلف ” صاحب القصبة ” بالبلدية و ضواحيها فكان صلة وصل بين العامل و السلطة المركزية.

و خلال فترة الإستعمار، حاولت سلطات الحماية جاهدة أن تضرب كل المقومات التي كان من شأنها أن تربط المغاربة بأصالتهم و تكافلهم و اندماجهم معتمدة سياسة فرق تسد و مستهدفة بالأساس التنظيم الترابي الذي أخذ طابعا عسكريا في عمقه . و بمجرد حصول المغرب على استقلاله، انطلقت الدولة في بناء تدريجي لنظام إداري لا مركزي إيمانا منها بأنه النمط التدبيري الأنسب تاريخيا و اجتماعيا للمغاربة. 

هكذا إذن يتضح بجلاء أن فكرة الجهوية و اللامركزية هي في الأساس متأصلة في الفكر السياسي الجماعي للمغرب و ليست حدثا طارئا على مجتمعنا. أكيد أنها كانت تأخذ طابعا قبليا و إقليميا تقليدانيا، غير أنها كانت متماشية و متطلبات المجتمع آنذاك.

محطات
لقد أصبح التنظيم الجهوي للإدارة الترابية واحدا من مسلمات دولة الحق و القانون و علامة فارقة في النظم الديمقراطية الحديثة، ذلك أن هذا التنظيم يعزز من قيمة اللامركزية و يفسح المجال للإستجابة المباشرة لحاجيات المواطن الإجتماعية و الإقتصادية و التنموية. و من تم جاء الإهتمام بالجهة كوحدة ترابية تحظى بأولوية دستورية بعد استنفاذ الإطار الإقليمي لمدة صلاحيته و عجز الأقاليم و الجماعات في صيغتها التقليدية عن تحقيق تنمية متكاملة, وكذا قصور الجهوية التنظيمية في تدبير الإختلالات و اللاتوازنات السوسيو- اقتصادية.
وقد بدأ تدعيم الإختيار الجهوي كأساس للتنظيم الترابي يبرز بشكل لافت خلال عدة محطات كان أبرزها نظام الجهات الإقتصادية لسنة 1971 والرغبة في إحداث جهوية ذات هياكل تشريعية و تنفيذية سنة 1984 , فالتعديل الدستوري لسنة 1992 مرورا بتدعيم مكانة الجهة في دستور 1996 و صدور القانون المنظم للجهات سنة 1997، ثم انتهاءا بدستور2011 الذي كرس الجهوية المتقدمة كمقاربة إستراتيجية في سياسة إعداد التراب الوطني.

الـتأصـيل الدسـتوري
جاء في الفصل الأول من دستور المملكة المغربية أن ” التنظيم الترابي للمملكة تنظيم لا مركزي، يقوم على الجهوية المتقدمة “. كما خصص دستور 2011 بابا خاصا بالجهات و الجماعات الترابية الأخرى أكد فيه على مرتكزات التنظيم الترابي الجهوي من مثل التدبير الحر و التضامن و مشاركة السكان في تسيير شؤونهم و كذا تقاسم الإختصاصات بين الدولة و المجالس الجهوية، كما بوأ ” الجهة، تحت إشراف رئيس مجلسها، مكانة الصدارة بالنسبة للجماعات الأخرى” ( الفصل 143 ) و غير ذلك من المقتضيات الدستورية الممتدة من الفصل 135 إلى الفصل 146، مما لا يدع مجالا للشك أن هذا الورش الدستوري سيشكل لا محالة قفزة نوعية في تحيين و تحديث هياكل الدولة على مستوى التدبير الترابي للمغرب.
من نافلة القول أن نعاود التأكيد على أن الجهوية المتقدمة مختلفة تماما عن مفهوم الجهوية الموسعة التي تقوم على أساس نظام فدرالي تتمتع فيه الجهة كوحدة سياسية بالشخصية المعنوية و الإستقلال الإداري و التشريعي و التنفيذي. 

فلسفة التوجه الجهوي
إن المقاربة الجهوية ليست غاية في حد ذاتها، بل وسيلة تتغيى من خلالها الدولة ضبط وتيرة التنمية و العمل على ربط السكان باستراتيجيات الإنتاج و إدماج شرائح و نخب جديدة في النسيج السوسيو- سياسي للبلاد, مع إشراك فعلي للمجتمع المدني في اتخاذ القرار التنموي من أجل محاصرة مختلف مظاهر الهشاشة و التهميش و الإقصاء. و يبقى الهدف الأسمى هو إعادة هيكلة المجتمع المغربي برمته ترسيخا للفكر الديمقراطي بإعطاء المواطن الحق في التعبير عن حاجاته من خلال إطار مؤسساتي و في توزيع متجدد لأنشطة الدولة على المستوى الجهوي كآلية لتقليص البيروقراطية و تقريب القرار من مكان تنفيذه .
إن فلسفة الجهوية المتقدمة يجب أن تؤسس على أرضية التمايز و الإندماج الإجتماعي و الإقتصادي لا على أساس مقاربة أمنية كلاسيكية. فهي – دستوريا – سياسة تجسد اللامركزية و اللاتمركز الترابيين في إطار تنظيم معقلن للمجتمع ضمانا للوصول إلى تنمية مجالية و مندمجة اقتصاديا و مجتمعيا و إداريا و بيئيا. فالمجال الجهوي هو البوثقة التي تنصهر فيها كل مقومات التنمية المستدامة في تفاصيلها الإجرائية، وفيه تفعل مخططات الدولة التنموية في محاولة منها لتجاوز اكراهات التدبير المركزي و معيقاته.
إن الجهوية المتقدمة تؤسس لفضاء تداولي و تدبيري يرسخ مفهوم الديمقراطية التشاركية التي أتى بها الدستور و تعزز قيم المواطنة الحقة و تكرس التوازن بين الحقوق و الواجبات و الربط بين المسؤولية و المحاسبة. و من تم، فتفعيل الجهوية و تقوية أركانها يقتضي تظافر كل الفاعلين السياسيين و المدنيين. أكيد أن الأحزاب المغربية مطالبة أكثر من غيرها ببلورة الإختيار الجهوي ومواكبة هذه التحولات و ذلك بإعادة النظر شكلا و مضمونا في هيكلتها الحزبية مما يتلاءم ومقاصد الجهوية المتقدمة وكذا بدمقرطة هيئاتها و العمل على تشبيبها و إعمال مبدأ المناصفة و تجديد نخبها و سن سياسة قرب و انفتاح تجاه المواطن.

التقسيم الجهوي و مفهوم الحكامة 
أصبح مفهوم الحكامة متداولا بشدة في قلب التحولات التي شهدتها مجمل مناحي الحياة في ظل عولمة اقتصادية واجتماعية و سياسية. فالحكم الرشيد كان ولا يزال تحديا لتحقيق أهداف وبرامج التنمية المستدامة و تجاوز عوائق من قبيل الفقرو البطالة و الهشاشة المادية والمعنوية.
تعرف الحكامة من بين ما تعرف به على أنها ” مجموع المؤسسات و التصرفات و التقاليد التي تنص على ممارسة السلطة و اتخاذ القرار و الكيفية التي يستطيع بها المواطنون إسماع صوتهم “. فالحكامة اذن ليست مرتبطة فقط بالحكومات بل أيضا بفاعلين كثر من مجتمع مدني و قطاع خاص و جمعيات قطاعية و منظمات غير حكومية في إطار سياسة قرب وتشارك لتجاوز اكراهات التدبير المركزي.
و من هذا المنطلق تمثل الجهة- كأسمى وحدة ترابية لا مركزية – اطارا ملموسا لتفعيل أسس الحكامة على جميع الأصعدة الإجتماعية و الإقتصادية و الثقافية و البيئية. فالتجارب الجهوية السابقة بالمغرب اعتمدت التقطيع الترابي دون أن تأخذ في الحسبان العلاقة الشمولية بين الإمكانات و المعيقات، إلا أن الجهوية في الدستور الحالي لم تعد تنبني على مجرد إعادة توزيع للإختصاصات بين المركز و الأقاليم, بل أصبحت الجهة في قلب التحولات السوسيو- اقتصادية و في احتكاك مباشر بمدخلات العدالة الإجتماعية و في تدبير يومي لمرافق أساسية كالتعليم و الصحة و السكن والبنيات التحتية و غيرها.

و من أجل إنجاح المشروع الجهوي و ضمان النجاعة و الجدوى لا بد لنا من وقفة مع مرتكزات أساسية لدعم البناء الجهوي نجمل بعضها في الآتي: 
* ضرورة مناقشة التقطيع الجهوي بروح وطنية موضوعية بعيدا عن المقاربة الأمنية أو القبلية أو الإثنية. 
* وجوب استحضار تحديات البناء الجهوي من قبيل: أبعاد التقطيع و آثاره السكانية و الإقتصادية، مصادر التمويل و طرائقه، كفاءة النخب المحلية و الطاقات البشرية، التأهيل الإداري و القانوني لمواكبة الجهوية. 
* التخطيط لبناء جهوي يتأسس على ركائز الوحدة و التوازن و التضامن: وحدة التراب الوطني و التوازن بين المركز و الجهة و التضامن بين و داخل الجهات.
*استحضار إشكالية التوازن بين اللامركزية الجهوية و اللاتمركز الإداري في اطار جهوية سياسية متناغمة. 
* تأسيس التقطيع الجهوي على معايير الفعالية و التجانس و الوظيفية و التوازن حتى يكون إعدادا و تهيئة لا تجزيئا للتراب الوطني. 
*إحداث مصالح لا ممركزة للوزارات في إطار جهوي يقتضي توفير الكفاءات البشرية و الموارد المالية لتنفيذ المخططات التنموية و التنسيق الأمثل بين مختلف المصالح لتفادي مشكل التداخل في الإختصاصات.
* إعمال مبدئي المراقبة و المحاسبة بعد سن منهجية مؤسساتية للتشارك و التعاقد ما بين الإدارة المركزية و الجهات لتحقيق النجاعة في التدبير و ضمان التنسيق في التسيير, مع صرف التمويلات وفق الإحتياجات المباشرة للجهة لتحقيق تنمية مجالية متوازنة.
* إحداث توازن بين المجالات الحضرية و هوامشها في ارتباطاتها بالعالمين القروي و الجبلي.

خاتمة
إن معالجة موضوع بحجم الجهوية المتقدمة يستدعي الرفع من مستوى تأهيل كافة مؤسسات الإدارة الترابية قانونيا و إداريا و وظيفيا. فتشييد دولة عصرية مرتكزة على نظام جهوي فعال يتطلب توطيد دعائم قوية للمؤسسات على المستوى الجهوي بالموازاة مع تدعيم أسس اللامركزية الإدارية في سبيل تحقيق التكامل و التوازن.
و من تم فإن مقولات من قبيل التنمية المستدامة و المندمجة و مفاهيم كالديموقراطية التشاركية و الحكامة الجيدة و تحفيز الساكنة للعب دور حيوي في صنع القرار التنموي تتطلب التأسيس لنظام جهوي هو في عمقه إطار قانوني تنسق من خلاله مختلف القطاعات الحكومية فيما بينها لتفادي تداخل الإختصاصات و تشابكها فيما بين المركز و الجهات و كذا فيما بين الجهات و الجماعات الترابية الأخرى حتى نضمن سياسة قرب فعالة و ناجعة.
لذلك نرى أن البناء الجهوي هو في عمقه نقل للسلطات التقريرية للمصالح الممركزة في مجالات متعددة و تحويلها لسلطة جهوية حقيقية و فاعلة في المجال المحلي حتى يتفرغ المركز لمعالجة قضايا استراتيجية تتجاوز الجهة إلى كل جهات مغربنا الحبيب.

هناك تعليق واحد:

  1. إن مشروع الجهوية المتقدمة الذي دستره المغرب من خلال دستور 2011 لا يزال في بدايته مما يصعب معه تقييم هذه التجربة ، خصوصا مع حداثة الإطار الدستوري والقانوني المنظم للجهات والجماعات الترابية . فادا كان هذا الإطار قد سطر المبادئ الأساسية والمقتضيات التنظيمية المحددة لشروط ممارسة الشأن الجهوي والمحلي ، فان الممارسة نفسها هي من سيحدد درجة نجاح هذا الورش المهم ، ومن تم انعكاس ذلك على تحقيق التنمية الجهوية المنشودة . فادا كانت النتائج ايجابية فوجب التشجيع ، وإذا حصل العكس ، فيجب تقويم الاختلالات سواء كانت في الشق التشريعي آو في مجال العمل السياسي ، وذلك كله في إطار سيادة القضاء .

    ردحذف