الصفحات

تخليق المرفق العمومي ورهانات الحكامة الإدارية بالمغرب على ضوء دستور 2011

 تخليق المرفق العمومي ورهانات الحكامة الإدارية بالمغرب على ضوء دستور 2011



كثيرا ما يرتبط مصطلح الحكامة بالإدارة، فالحكامة الجيدة هي الإدارة الجيدة. كما أن المؤسسات الدولية (صندوق النقد الدولي، البنك العالمي…) كثيرا ما تستعمل مبدأ الحكامة الجيدة من أجل تحديد مميزات ومرتكزات”الإدارية العمومية الجيدة” أو “المرفق العمومي الجيد”.

هذا الأخير الذي يمكن للدول النامية أو السائرة في طريق النمو تبني سماته الإيجابية للقيام بإصلاحات هيكلية وبنيوية مرتبطة بالسياسات العمومية الاجتماعية.إنه على ضوء آليات ذلك الاستعمال،تبرز العلاقة الوطيدة التي يمكن أن تنسأ بين الحكامة الإدارية والتنمية البشرية. فهذا النمط من الحكامة،يتبلور كجزء أساسي ويتجلى كمكون رئيسي من إستراتيجيات التنمية الحديثة وخططهاالإستشرافية وأبعادها المتعددة:الاقتصادية،الثقافية،الاجتماعية،العلمية والإدارية،حيث تشكل هذه الإستراتيجيات والخطط والأبعاد بتنوعها وتشعبها كلا متكاملا، تتداخل عناصره وتترابط محاوره وتتشابك مكوناته في علاقات تتبادل الانسجام والتوازن والمواءمة والتناسق. وفق هذا المنظور الشمولي، حرصت مجمل سياسات الإصلاح الإداري، التي عرفتها العديد في دول المعمور، على تبني أسس ومقومات الحكامة الجيدة، وذلك اقتناعا منها بأهمية المتزايدة التي أضحت تمثلها الإدارة العمومية في الوقت الراهن، وكذا نظرا للتحديات الجديدة التي أصبحت تجابهها في إطار سياقات التيار الجارف للعولمة. الشيء الذي حتم على الإدارات العمومية المعاصرة، الأخذ بالتوجه الحكامتي، المتمثل في التوسل بتقنيات متطورة للتدبير والتنظيم، والمتسم بالضرورة بالعمل العميق على تمتين أداء الإدارة من أجل مواكبة العولمة والشمولية والتنافسية(1). وهي المواكبة التي تعد بالنسبة للمغرب، بمثابة منطلق فلسفة الإصلاح الإداري، والتي ينبغي أن ينظر إليها في إطار كلي.فنظرا لارتباط إصلاح الإدارة بإصلاح الدولة، في ظل ما يسمى بالتحديث الإداري، لم يعد من الممكن الحديث عن إصلاح الإدارة، في غياب إصلاح شامل/ يستوعب الدولة نفسها(2).هاته الأخيرة، ولتوطيد أركان صرحها التنموي،عليها أن تبحث عن العلاجات الضرورية لمختلف الإختلالات المرتبطة بأنماط حكاماتها المتعددة، بما فيها نمط الحكامة الإدارية، والمرتكز على جملة من المبادئ التي يمكن أن تعزز غاياته الوظيفية وتقوي أدواره الطلائعية،وعلى رأسها مبدأ تخليق المرفق العمومي. فماهي أبرز مؤشرات هذا المبدأ في السياق المغربي ؟ وما هي أهم آلياته تكريسه؟



الفــرع الأول: مؤشرات مبدأ تخليق المرفق العمومي في السياق المغربي

يظل أكبر رهان ينطوي عليه كل إصلاح مؤسساتي عميق، هو رهان التخليق وإشاعة ثقافة الفضيلة في تدبير الشأن العام على مختلف المستويات. فلقد أصبحت الرؤية أو المقاربة الجديدة في ميدان التدبير العمومي في معظم دول العالم تولي أهمية قصوى للقيم الرفيعة والمبادئ المثلى،وعلى رأسها الشفافية .كما أن ضرورة اشتغال أوسير إدارة معينة ،حسب مبادئ دولة الحق والقانون ،تعتبر شرط أوليا ورهانا أساسيا للفعالية والكفاية والمسؤولية والجودة. إن منطلق الحكامة الإدارية،يظل في الأساس منطلقا أخلاقيا،يتسم إجمالا بغياب مظاهر الغش والرشوة،وكل تجليات الفساد(3)، خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار المعطى الذي يؤكد على أن من أبرز مؤشرات أزمة الإدارة المعاصرة هو الإتصاف بالضعف البين على مستوى أخلاقيات المرفق العمومي،وما يرتبط بذلك من فشل ذريع،كثيرا ما تم رصده بخصوص البنيات الإدارية التقليدية،بمختلف الأمراض التي خلفتها،وعلى رأسها انعدام الشفافية(4). كل ما سبق ذكره من تمظهرات التدبير السيء للإدارة،مافتئ يتجسد بشكل جلي في تاريخ الإدارة المغربية،التي أصبحت في الوقت الحالي ملزمة بتطوير آليات عملها، وعلى وجه الخصوص تصويب أوجه الخلل التي تشوب علاقتها بالمرتفقين والمتعاملين معها. وذلك بالنظر لجملة من الرهانات المطروحة والتحديات المتسارعة، التي أضحى يعيش على إيقاعها العالم،والتي تفرض على المغرب صياغة ميثاق أخلاقي يضم في طياته كل ما من شأنه بناء صرح إدارة “شفافة”. وهو المطمح الذي ما فتئ يترسخ أكثرمع انبثاق حركات التغيير،في إطار سمي بالربيع العربي.تلك الحركات التي رفعت شعارات عديدة من قبيل محاربة الفساد بشتى تجلياته،ومنها الفساد الإداريالذي ظل عائقا أمام مسارات الإصلاح في دول العالم الثالث عموما، ودول العالم العربي خصوصا،ومنها المغرب الذي جعل من تخليق المرفق العمومي ضرورة ملحة وذات أهمية قصوى،تمليها العواقب الوخيمة لمظاهر الفساد على الأداء الحكومي وعرقلته لسير التنمية الشاملة،كما تفرضه إكراهات الظرفية المتسمة بالتطور المتلاحق على المستوى العالمي وضغوط المؤسسات السياسية والمالية الدولية،التي أصبحت تنصب على التحلي بالأخلاق مقياسا يتم الاحتكام إليه في الكثير من القرارات(5)،ومنها القرارات المرتبطة بمنح المساعدات المدعمة لمشاريع و برامج التنمية. إن تنمية ثقافة أخلاقية سليمة،ترتكز على القيم والمبادئ المثلى،لا يمكن أن تتم إلا من خلال دعم مختلف المبادرات التخليقية الهادفة إلى تأسيس قيم جديدة في تدبير الشأن العام وتهذيب الحياة الإدارية،عبر قيم النزاهة والشفافية والاستقامة.



ان كل ماسلف ينبغي أن يتم من خلال مقاربة شمولية، مع مراعاة مجموعة من الشروط الموضوعية المتعلقة بتداعيات هذه المسألة على مستوى التنظيم الإداري والبنيات التشريعية،مما يجعل الطروحات العلاجية غير متعالية على حيثيات الواقع،ويمنحها بالتالي القابلية العملية للتطبيق(6).

إن البعد التخليقي للإدارة المغربية عرف تجليه الإرهاصي الأول مع تشكيل حكومة التناوب سنة 1998، والتي عملت على تبني الورش الكبير للتأهيل العام للإدارة المغربية، حتى تتمكن من أن تلعب دور المحرك الدينامي للدفع بعجلة التنمية المنشودة وتثمين كل الطاقات من أجل بناء إدارة الغد، وهوما ترسخ أيضا من خلال تبني إحدى أهم آليات تخليق المرفق العمومي،وهي آلية ميثاق حسن التدبير.وقد حددت وزارة الوظيفة العمومية والإصلاح الإداري-إبان فترة حكومة التناوب التوافقي-هذا الميثاق عبر مجموعة من القيم الواجب احترامها في التدبير العمومي، تماشيا مع مبدأ التخليق،الذييجب أن يقود سير المرفق العمومي وهي :النزاهة،التجرد،الاستقامة،المسؤولية،الانفتاح،الشفافية،الشرف والالتزام(7).هكذا يعد مبدأ التخليق مدخلا رئيسيا لميثاق حسن التدبير،إذ جاء في الرسالة الملكية الموجهة إلى المشاركين في الندوة المنظمة سنة 1999 حول دعم الأخلاقيات في المرفق العام،في كون هذه الأخيرة “هي أساس الدولة،تقوم بقيامها وتنهار بإنهيارها”.

على هذا الأساس الأخلاقي ، تمت بلورة أهداف ميثاق حسن التدبير،في عدة مبادرات،بدأت بوادرها تتجسد على أرض الواقع،خاصة في محاولة أولية لتطويق بؤر الفساد،وتحريك مسطرة المتابعة في حق الكثير من المتورطين داخل الادارة العمومية.

من جهة أخرى،تجسدت الجهود الحكومية في هذا المجال،في تبني العديد من المبادرات ذات الطابع الوقائي ،والتي توخت أساسا إرساء نظام من الآليات القانونية الضرورية للتصدي لكل أشكال السلوكات السلبية ،التي يمكن أن تسود في مرافق الدولة المختلفة. وعلى رأس هذه الآليات نجد “ميثاق حسن سلوك الموظف” ،الذي شكل لبنة من لبنات الإصلاح الإداري الفعال ،الذي يتوق إلى تعميق الأبعاد الشمولية التكاملية لهذا الإصلاح ،ومنها خلق سمات من التناغم والتداخل بين مختلف مكوناته ومنها مقتضيات الوظيفة العمومية ومبادئ وأهداف ميثاق حسن التدبير.

إن تبني مثل هذه الخطوات الإيجابية في مسار الإصلاح الإداري كان ولازال من بين التزامات المغرب المستمرة، جهويا ودوليا،وهو ما أكدته مثلا،توصيات المنتدى الإفريقي السابع حول تحديث المرافق العمومية ومؤسسات الدولة(8)،والتي ألحت على مايلي:

تعزيز آليات الوقاية من الفساد،بالتأكيد على نزاهة الموظفين العموميين،من خلال تفعيل الميثاق الافريقي للوظيفة العمومية،وإقرار مدونات سلوك الموظفين،ومكافحة تضارب المصالح، وإجبارية التصريح بالممتلكات.
تعزيز سيادة القانون، مع التركيز بشكل خاص على مبدأ المساءلة ومكافحة الإفلات من العقاب، عن طريق سن قوانين واضحة ونظم قضائية فعالة.
تحسين الشفافية ومكافحة جميع أشكال السلوك الرامية لمنع أو تغيير نوعية مجالات المرافق الحيوية والخدمات المتصلة مباشرة بالاحتياجات الأساسية للمواطنين كالماء والصحة والتعليم والكهرباء.
تحقيق الأهداف الإنمائية للألفية(9)،بحلول سنة 2015،وفق ماالتزم به قادة العالم ،بما فيهم القادة الأفارقة في إعلان الألفية لسنة 2000 من خلال صياغة وتنفيذ برامج إصلاحية في مجال مكافحة الفساد لتحقيق الأهداف ذات الأولوية بالنسبة لكل دولة،مع الاستفادة من المبادئ التوجيهية المنظمة في إطار تسريع التقدم نحو تحقيق الأهداف الإنمائية للألفية.
تنفيذ القدرات الضرورية لصياغة وانجاز مشاريع محددة ،لتعزيز الحكامة الجيدة ومكافحة الفساد في الدول الافريقية(10).
لقد شكلت هذه التوصيات،آليات ناجعة وفعالة في سبيل تخليق المرفق العمومي،وهي تتداخل كليتها من أجل تكريس أسس الحكامة الإدارية الجيدة.

الفـــــرع الثاني: آليات تكريس مبدأ تخليق المرفق العمومي 
مثل دستور فاتح يوليوز2011، لحظة مفصلية في النسق السياسي المغربي،إذتناول مجموعة من المقتضيات المرتبطة بتكريس الحكامة الجيدة وضمان إشراك مختلف الفاعلين في تدبير الشأن العام، وهو بذلك إستجاب لمتطلبات مرحلة لها خصوصياتها الداخلية والجهوية والدولية،اتسمت بمركز اجتماعي وسياسي،كما أنه شكل لبنة أساسية لتدعيم المقومات والأهداف التي جاء بها المفهوم الجديد للسلط(11)،ومنها أساسا مبدأ تخليق المرفق العمومي،كأحد المبادئ الرفيعة للحكامة الإدارية الجيدة.ومن أهم آليات تكريس هذا المبدأ نجد آلية التصريح الإجباري للممتلكات وآلية الهيئة المركزية للوقاية من الرشوة.

أولا: آلية التصريح الإجباري للممتلكات

لعل من أبرز آليات تكريس أسس الحكامة الإدارية الجيدة،ماتم ضبطه تشريعيا لإيقاف نزيف نهبالمال العام وتخليق الحياة العامة والقطع مع كل أشكال الفساد، آلية تبني قانون التصريح الإجباري بالممتلكات، من طرف أعضاء الحكومة والنواب والقضاة والموظفين السامين ورؤساء المجالس الجهات والأقاليم و الجماعات(12). فماهي أهمية هذه الآلية القانونية ؟ يحتل المستوى الوقائي في تخليق المرفق العمومي، جانبا مهما للحد من انتشار مختلف تجليات الفساد الإداري والانحرافات في القطاع العام.في هذا السياق، عملت الحكومة المغربية منذ بداية التسعينات ببلورة رؤية قانونية تتوخى ترسيخ أسس الشفافية وتعزيز دمقرطة الإدارة، وذلك عبر سن بعض النصوص القانونية وتفعيل البعض الآخر المتواجد منها،من قبيل القانون رقم 92/25 بتاريخ 7 دجنبر 1992 والمتعلق بإقرار موظفي الدولة و الجماعات المحلية، والمؤسسات الحكومية وأعضاء مجلس النواب ومجالس الجماعات المحلية والغرف المهنية، بالممتلكات العقارية والقيم المنقولة التي يملكونها أو يملكها أولادهم القاصرين.

و هكذا نص القانون على ضرورة تصريح الموظفين السامين والعموميين بممتلكاتهم، مباشرة بعد تعيينهم أو تنصيبهم، حتى تكتشف الدولة تطور غناهم و تعرف مصادر ثرواتهم(13).وكل ذلك من أجل ترسيخ الجانب الوقائي لمفهوم التخليق بحيث، كما يؤكد ذلك الملك محمد السادس، في رسالته الموجهة للمناظرة حول دعم الأخلاقيات في المرفق العام(14)،أنه “لا بد لبلوغ هذا المرمى الأساسي – التخليق في المرفق العمومي– من تفعيل قانون الإقرار بالممتلكات، حتى يستجيب للآمال المنوطة به لوقاية الصرح الإداري من كل ما يخل بالسلوك المرغوب فيه. “ومن أجل توطيد آلية التصريح الإجباري بالممتلكات، وبغية ضمان حكامة إدارية جيدة حرص الدستور الجديد في فصله158 على تكريسها كآلية تمثل خيارا تخليقيا لا محيد عنه،حيث ينص هذا الفصل على مايلي : “يجب على كل شخص، منتخبا أو معينا، يمارس مسؤولية عمومية أن يقدم طبقا للكيفيات المحددة في القانون، تصريحا كتابيا بالممتلكات والأصولالتي في حيازته، بصفة مباشرة أو غير مباشر، بمجرد تسليمه لمهامه وخلال ممارستها وعند انتهائها”.

ثانيا : آلية الهيئة المركزية للوقاية من الرشوة :

بحكم أن مسار تطبيق الإصلاحات المرتبطة بالشفافية – كما يرى ذلك دانيال كاوفمان–يبقى متذبذبا على واقع الأرض في كل مكان(15) ،ورغم أهمية آلية التصريح بالممتلكات السالفة الذكر، التي تظل لوحدها غير قادرة وبفعالية على تخليق الحياة العامة وتوطيد قيم النزاهة، فإن مبدأ التخليق يتطلب اعداد سياسة شاملة لمحاربة الفساد في مختلف المرافق العمومية والمصالح المرتبطة بها، وهي السياسة التي تتوخى مناهضة كل المظاهر المشينة والمخلة بشفافية المرفق العمومي من رشوة واستغلال نفوذ وزبونية وإفلات من العقاب. في هذا السياق، نجد أن مطالب المؤسسات المجتمع المدني،وخصوصا الجمعيات الحقوقية وعلى رأسها الجمعية المغربية لمحاربة الرشوة( ترانسبارانسي المغرب ) لا تقتصر على المطالبة بالقوانين ولكن تنادي بإعداد سياسة حقيقية للقضاء على الرشوة بكل أشكالها، و ذلك عبر عدة قنوات، ليست فقط قانونية، ولكن كذلك تربوية وتحسيسية وقضائية(16). و هنا يأتي إحداث الهيئة المركزية للوقاية من الرشوة،كخطوة جبارة في مسارات تخليق الحياة الإدارية، والتي ستعرف تحولا في التسمية والصلاحيات مع المراجعة الدستورية ل 2011. حيث أحدثت هذه الهيئة في البداية بموجب المرسوم المؤرخ في 13مارس2007 تحت إسم الهيئة المركزية للوقاية من الرشوة، وذلك رغبة من المغرب في الانخراط في البعد الدولي لمحاربة الفساد،وهو ما تجلى في مصادقته على اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد(17)،والتي تنص في مادتها السادسة على ضرورة وجود هيئة وطنية مستقلة تتولى الوقاية من الفساد وتتوفر على الموارد المادية والبشرية اللازمة. وقد عبر المغرب من خلال إحداثه لهذه الهيئة عن الانخراط العملي في الدينامية الدولية لمكافحة الفساد(18). هكذا أنيطت بهذه الهيئة عدة صلاحيات من قبيل : تنسيق سياسات الوقاية من الرشوة والإشراف عليها والسهر على تتبع تنفيذها وجمع ونشر المعلومات في هذا المجال وتوجيه توصيات إلى الإدارات والهيئات العمومية والمقاولات الخاصة وإلى كل متدخل في سياسة الوقاية من الرشوة، كما تبدي إلى السلطات بعض الآراء حول التدابير الممكن اتخاذها للوقاية من الرشوة، مع اقتراح الإجراءات الرامية إلى تحسيس الرأي العام وتنظيم حملات إعلامية لهذا الغرض.

فالهيئة المركزية للوقاية من الرشوة، وان كان عملها غير تقريري ولا يهدف إلى تحديد المسؤوليات والعقوبات، فإن من شأن إحداث هذه المؤسسات تطوير الممارسة الإدارية في اتجاه أخلاقي، بعيدا عن الانحرافات السلوكية التي تشكل سدا منيعا أمام المبادرات الهادفة إلى حفظ كرامة وقدسية العمل الإداري الطامح إلى تقديم خدماته بكل نزاهة وشفافية ووضوح. إن تأسيس هذه الهيئة، يعتبر استجابة صريحة لسياق المناخ الديمقراطي، المبني أساسا على انفتاح النظام المغربي عن مجموع فعاليات المجتمع المدني والسياسي لتدبير الشأن العام ، وفي إطار المرجعية الملكية الراسخة لتحديث الإدارة، والتي ما فتئت تتبلور عبر الخطب والرسائل والتوجيهات الملكية، التي يستعرض فيها واقع الإدارة العمومية والحلول التي يراها مناسبة لحل إشكاليات التدبير العمومي، وعلى وجه الخصوص التدبير الإداري، وفي هذا الصدد، جاء في خطاب الملك محمد السادس بمناسبةعيد العرش لسنة 2005 ، ما يلي :” كما يجب الإسراع بتحديث الإدارة، بما يكفل فعاليتها، حتى نجعل من خدمة الصالح العام، ومن القرب من المواطن شغلها الشاغل، وبموازاة ذلك نؤكد على وجوب تخليقالحياة العامة، بمحاربة كل أشكال الرشوة، ونهب ثروات البلاد والمال العام.وإننا لنعتبر أي استغلال للنفوذ والسلطة، إجراما في حق المواطن، لا يقل شناعة عن المس بحرماته، وفي هذا الشأن نؤكد على الالتزام بروح المسؤولية والشفافية والمراقبة والمحاسبة والتقويم، في ظل سيادة القانون وسلطة القضاء”.

إن كل هذه الخطوات الهادفة إلى ترسيخ أسس التخليق والشفافية في الإدارة العمومية، والساعية إلى المساهمة في تحديث هذه الإدارة وجعلها إدارة القرب وإدارة الحكامة، ستتوج سنة 2011 بالتكريس الدستوري لنمط حكامة المرفق العمومي ولخاصية الشفافية وعنصر التخليق، كأساس لبناء دولة ديمقراطية يسودها الحق والقانون، تواصل إقامة مؤسسات دولة حديثة، مرتكزاتها المشاركة والتعددية والحكامة الجيدة، وهو ما تبلور من خلال انتقالية الهيئة المركزية للوقاية من الرشوة عبر الدستور الجديد إلى الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها كهيئة من هيئات الحكامة الجيدة والتقنين. وهي الانتقالية التي كرسها كل من الفصلين 36و 167 من الدستور الحالي(19). ولتترسخ أكثر مع مجموعة من الخطوات والإجراءات المتخذة في هذا الشأن من قبيل : متابعة العديد من المسؤولين الإداريين بتهم الرشوة والفساد الإداري، والإعلان من طرف وزارة العدل والحريات عن خط أخضر للتبليغ عن جريمة الرشوة.

إن التأكيد الدستوري على مبدأ تخليق المرفق العام سيتعزز في مقتضيات دستورية أخرى عديدة ،من قبيل الفقرة الثانية من الفصل 154″تخضع المرافق العمومية لمعايير الجودة والشفافية والمحاسبة والمسؤولية، وتخضع في تسييرها للمبادئ والقيم الديمقراطية التي أقرها الدستور ” . وكذا الفصل 155 ” يمارس أعوان المرافق العمومية وظائفهم وفقا لمبادئ احترام القانون والحياد والشفافية والنزاهة والمصلحة العامة”. وبذلك تتوطد أسس حكامة إدارية جيدة وتترسخ أركان دولة الحكامة.

خاتمة :

إن مبدأ تخليق المرفق العمومي كجزء من الحكامة الإدارية، أضحى يكتسي أهمية بالغة في الوقت الراهن، خاصة في ظل انفجار ما يمكن أن نطلق عليه ” أزمة المرفق العمومي”، الشيء الذي حفز الدولة بشكل عام على المستوى العالمي، كما هو الشأن على المستوى الوطني على البحث عن الوسائل الناجعة لحسن تدبير المرفق العمومي، وهو ما تمظهر ببلادنا عبر دسترة حكامة المرفق العمومي والرغبة الأكيدة على إصدار ميثاق حقيقي للمرافق العمومية،من أبرز معالمه تحديد قواعد الحكامة الجيدة المتعلقة بتسيير الإدارات العمومية والجهات والجماعات الترابية الأخرى والأجهزة العمومية كما يشير إلى ذلك الفصل 157 من الدستور، خاصةمع تبني المغرب لخيار الجهوية المتقدمة، وهو ما سيساهم لا محالة في تعزيز حكامة إدارية رائدة ومعلنة عن انبثاقها كلبنة من لبنات بناء الصرح الديمقراطي للمغرب “الصاعد “،مغرب” الحكامة”.

إعداد:الدكتـــور محمد البكـــــوري


هناك تعليقان (2):

  1. شكرا على الاحاطة بحيثيات تدبير المرفق العمومي التي تشكل العمود الفقري لتجويد المردودية الادارية و الخدماتية اتجاه المرتفقين. أود فقط التساؤل عما إذا كانت هناك معطيات يمكن أن تفيدنا بها فيما يخص تدبير المرفق العمومي الجماعي المتعلق بالجماعات الترابية و مآل تدبير المرفق العمومي الجماعي و شكرا..

    ردحذف
    الردود
    1. العفو مرحبا الشكر لك سنحاول اعداد موضوع بالخصوص

      حذف