الصفحات

المدن الذكية بين عالمية التقنية وخصوصية الجغرافيا والثقافة

المدن الذكية بين عالمية التقنية وخصوصية الجغرافيا والثقافة



أصبح نمو الحواضر من الظواهر الأساسية التي ميزت القرن العشرين وبداية القرن الواحد العشرين. فبعد أن كانت نسبة سكان المدن تقدر بحوالي 10% سنة 1900 ارتفعت لتتجاوز في الوقت الراهن أكثر من نصف سكان العالم(1) .


أمام هذا الوضع أصبح لزاما على هذه الحواضر تلبية الاحتياجات المتزايدة للسكان ومجابهة التحديات التي تواجههم في مجالات التشغيل والتعليم والصحة والبنيات التحتية والسكن والتخطيط الحضري، وغيرها من الخدمات. وهذا لن يتأتى إلا من خلال خطط تنموية مبتكرة تستثمر في العنصر البشري وفي المستجدات التقنية والعلمية التي وصلت إليها الإنسانية.



ومن الحلول المقترحة في هذا الإطار ظهر اصطلاح “المدن الذكية” في مطلع تسعينات القرن العشرين، والذي يتوخى استثمار التقنيات الرقمية الحديثة في تحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لسكان المدن. 
فماهي إذن المدن الذكية؟ وماهي مميزاتها؟ وهل هي نمط واحد أم لها خصوصيات حسب الدول والجغرافيا والثقافة؟ وماهي سياسة المغرب في هذا المجال؟
للإجابة عن هذه الأسئلة، نقترح معالجة الموضوع في ثلاث محاور: محور أول يتناول التعريف الأكاديمي والدولي للمدن الذكية، محور ثاني يتطرق إلى القواسم المشتركة للمدن الذكية في مختلف أرجاء العالم من جهة، وإلى خصوصياتها الثقافية والذاتية من جهة أخرى، أما المحور الثالث فسأفرده إلى مشاريع المغرب في هذا المجال وفرص نجاحها.

المحور الأول: تعريف المدن الذكية

حسب الأستاذ جون بوينوت(2) :”المدينة الذكية هي المدينة التي تكون، بفضل مجهوداتها الذاتية بالأساس، مركزا للمعارف والمهارات المهنية أي تجمع هام لليد العاملة من ذوي الكفاءات العالية”.
وبالنسبة للاتحاد الدولي للاتصالات(3) :” المدينة الذكية المستدامة هي مدينة مبتكِرة تقوم على استعمال تكنولوجيات المعلومات والاتصالات وغيرها من الوسائل لتحسين نوعية الحياة وكفاءة العمليات والخدمات الحضرية والقدرة على المنافسة مع ضمان تلبية احتياجات الأجيال الحاضرة والمقبلة فيما يتعلق بالجوانب الاقتصادية والاجتماعية والبيئية «.

من خلال هذه التعريفات يمكن استنتاج بعض الأبعاد الرئيسية التي تميز المدينة الذكية، فهي المدينة ذات البعد الاقتصادي التي توفر اليد العاملة ذات الكفاءة والمهارة والبنية التحتية الملائمة لخلق الثروة من خلال استقطاب الشركات والاستثمارات والخبرات ورجال الأعمال، وهي المدينة ذات البعد الاجتماعي التي تتطلع إلى توفير حياة أفضل لساكنتها في مختلف الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وذلك بالاعتماد على تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وعلى تطوير الخدمات الحضرية، وجعل المواطن في قلب اهتماماتها من خلال إشراكه في تخطيط المشرعات المبرمجة، وهي أيضا المدينة ذات الاهتمامات البيئية التي بقدر ما تتطلع إلى الأجيال الحاضرة فهي تتطلع إلى الأجيال المقبلة عبر تعزيز الاستدامة الاجتماعية والاقتصادية والبيئية.

المحور الثاني: المدن الذكية بين العالمية والخصوصية

تبلورت فكرة المدن الذكية كرؤية لمواجهة التحديات التي تعرفها جل الحواضر على الصعيد العالمي، في مجالات مثل النقل والتمدد العمراني والتلوث والنظافة والبطالة والعزلة، وغيرها…
هذا التشابه في الأزمات من شأنه أن يؤدي إلى تشابه في الحلول، غير أن تفاوت الإمكانيات والوسائل، والاختلاف في الثقافة وفي العادات والتقاليد وفي الموقع الجغرافي أيضا يحتم حلولا تأخذ بعين الاعتبار هذه الخصوصيات.

1. الخصائص المشتركة للمدن الذكية
على العموم تشترك المدن الذكية في الخصائص الرئيسية الثلاث التالية:
• بنية تحتية لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، التي تمكن من توفير خدمات المدينة الذكية لفائدة مختلف شرائح المجتمع؛
• إدارة تعتمد شبكات رقمية مندمجة على مستوى المدينة تسمح لمختلف الأنظمة المحدثة من العمل في وئام وتكامل. 
• مستعملين يستطيعون التفاعل مع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات عبر الخدمات الذكية.

2. تميز المدن الذكية عن مثيلاتها من المدن الذكية الأخرى
إذا كانت المدن الذكية تشترك في استخدام المعرفة والبحث والتقنية والإبداع في الخدمات التي تقدمها لتحسين الحياة اليومية للسكان، فإن هذا الاستخدام يتم وفقا لقدرات وإمكانات هذه المدن وأيضا لاحتياجاتها، فضلا عن ثقافتها وبيئتها. فالموقع الجغرافي وطبيعة الاشكالات الحضرية ومستوى دخل السكان وكذا مستواهم التعليمي وانتماءهم الحضاري وغيرها من الاعتبارات تفرض نوعية الحلول التي يتعين أن تكون في قلب اهتمامات مشاريع المدن الذكية لكون هذه المشاريع جاءت كإجابات للتحديات التي تعرفها المدن الحالية.

وهكذا نجد أن مدينة كمدينة سيول الكورية الرائدة في مجال تكنولوجيا المعلومات والاتصالات بنت مشروعها على تطبيق تكنولوجيات الحوسبة في كل مكان لتعزيز قدرتها على المنافسة، وذلك عبر تحسين الخدمات عن طريق البنية التحتية التقليدية، والتركيز على الساكنة بتشجيعها على اقتناء الأجهزة الذكية من خلال تسهيلات ضريبية، وتوزيع الأجهزة الذكية المستعملة على الأسر منخفضة الدخل، مع تدريب المستعملين الجدد على تشغيلها(4) .

أما مدينة برشلونة فقد راهنت على مئتي مشروع للدخول إلى عالم المدن الذكية. ومن المشاريع الرائدة في هذا المجال هناك مشروع لتطوير منطقة جديدة للابتكار أطلق عليه اسم – @ 22 – يجعل من المواقع الصناعية القديمة مراكز تقنية حديثة، ومشروع لتأسيس مركز ابتكار عالمي للإنترنت بهدف تطوير حلول جديدة واختبارها في المدينة، وعرضها على زبائن في جميع أنحاء العالم، وهناك أيضا مشروع حزمة الترحيب، الذي يتيح لزوار المدينة الاضطلاع في الوقت الحقيقي على المعلومات التي يبحثون عنها، وذلك لجعلهم يتعلقون بالمدينة .

سان فرانسيسكو بدورها اعتمدت مشروعا تحت اسم “سان فرانسيسكو واي” الذي يشمل أكثر من 50 تطبيقاً تحتوي كل ما يحتاجه السكان للعيش أو الانتقال أو التنقل أو العمل أو الإقامة أو الزيارة في المدينة.
وفي سياتل، يوجد تطبيق يدعى “موم مابس”، وهو خاص بالعائلات التي لديها أطفال صغار، يساعد على إيجاد أماكن ترفيه ومواقع مخصصة للأطفال أثناء التنقل، ويتضمن جميع المعلومات الخاصة بالحدائق والملاعب والمطاعم والمتاحف وأماكن اللعب المغلقة(5) .
ونفس الأمر ينطبق على مدن أخرى مثل شنغهاي وسنغافورة وأمستردام والتي استفادت من خصوصياتها المحلية لتقديم خدمات أفضل لساكنتها.

من خلال هذه الإطلالة على بعض التجارب الدولية يتضح أن القائمين على مشاريع المدن الذكية يستهدفون إدخال تطبيقات تكون في خدمة الساكنة المحلية وكذا الزوار، ولن يتحقق هذا إلا من خلال سن القوانين التي تعمل على دعم التقنيات الذكية، وعقد شراكات بين القطاعين العام والخاص.

وفي المجال العربي، تسعى عدة مدن ومنها لوسيل والدوحة بدولة قطر ودبي وأبوظبي بدولة الامارات، وغيرها من المدن العربية لدخول عالم المدن الذكية.
بدوره يسعى المغرب إلى تأهيل مجموعة من المدن لتكون ضمن المدن الذكية. لتسليط مزيد من الضوء على هذه المشاريع نقترح المحور أدناه.

المحور الثالث: مشاريع المدن الذكية بالمغرب

لتحقيق التنمية المنشودة بادر المغرب إلى إطلاق مجموعة من الأوراش التي ترمي إلى استغلال التكنولوجيات الحديثة، وهكذا أطلقت عام 2009 “استراتيجية المغرب الرقمي 2013 “(6) لجعل المملكة مركزا إقليميا في تكنولوجيا المعلومات والاتصال ولتحسين إنتاجية المقاولات والصناعات الصغرى والمتوسطة. وكان في صدارة هذه الاستراتيجية ورش “الحكومة الإلكترونية” الذي يهدف إلى تقريب الإدارة من احتياجات المواطنين والمقاولات، من حيث الفعالية، والجودة والشفافية عبر برنامج يروم إنجاز 89 خدمة ومشروعا.
وفي إطار الاهتمام الذي يوليه المغرب كذلك لمشاريع المدن الذكية احتضنت جامعة الأخوين في مدينة إفران، خلال شهر يوليو 2014، القمة الدولية السنوية الأولى عن المدن الذكية في شمال أفريقيا. وقد ركز المنظمون على تدارس العديد من النقط من ضمنها التوسع الحضري والاحتواء الرقمي ونظام الإدارة العامة ووسائل النقل، كما تناولوا سبل تعزيز التنمية في هذه المدن اعتمادا على مقدراتها وانسجاما مع ثقافتها المحلية.

1. المدن المعنية بمشاريع المدن الذكية بالمغرب
يراهن المغرب خلال ال 10 سنوات المقبلة على تحويل مجموعة من مدنه إلى مدن ذكية بيئية. ومن المدن المرشحة في هذا الصدد نجد الدار البيضاء والرباط وطنجة ومراكش وفاس وإفران بحكم الامكانات الهائلة التي تتوفر عليها، وأيضا بحكم التحديات التي تواجهها سواء بالنسبة لساكنتها أو بالنسبة لموقعها التنافسي على المستوى العالمي.
هذا، وقد شرعت عدة مجموعات عالمية في تجهيز بعضا من هذه المدن بنظم تكنولوجية متقدمة لجعلها مدنا ذكية: 
فالمجموعة الأميركية مايكروسوفت(7) تعمل على تجهيز العاصمة الاقتصادية بنظم ذكية لإدارة المعطيات والبيانات، وذلك بهدف رسم خريطة دقيقة لواقع المدينة، كما تسعى إلى وضع مجموعة من المؤشرات التي تتعلق بالأمن والنظافة، وذلك على غرار ماقامت به في مدينة فاس حيث جهزت هذه المدينة بنظم متقدمة لضبط مؤشرات النظافة والأمن، في إطار مشروع citynext الخاص بالمدن الذكية، حيث اعتبرت فاس أول مدينة يتم تجهيزها بهذه النظم في إفريقيا.
المجموعة الصينية “هواوي ” بدورها أبدت استعدادها لإطلاق خدمات المدن الذكية بالمغرب، بما في ذلك الحكومة الإلكترونية والمدينة الذكية، والتعليم الذكي والسياحة الذكية والنقل الذكي(8) .
غير أنه يتعين في هذا الصدد الإشارة إلى أن الشركات المذكورة تبقى شركات تستهدف تحقيق الربح، وبالتالي على بلدنا دراسة المشاريع المقترحة دراسة وافية والتأكد من جدواها ومن خدمتها للساكنة وأساسا من تكلفتها وتكلفة صيانة وتجديد التكنولوجيات المستعملة، هذا فضلا عن تأهيل الموارد البشرية، واعتماد الموارد المالية اللازمة لتغطية المستلزمات.

2. أهم أهداف المدن الذكية بالمغرب:
يتوخى المغرب من خلال المدن الذكية تحقيق مجموعة من الأهداف والغايات، نذكر منها على سبيل المثال:
• تقديم حلول للكثير من الاشكاليات التي تقف في وجه المجالس المسيرة للمدن على مستوى حركة النقل والتعمير والأمن والصحة العمومية؛ 
• استثمار البنية التحتية الأساسية، بما فيها الطرق ووسائل النقل بشتى أنواعها، لتصل للدرجة المثلى من تقديم الخدمات والأمن ورضا المواطن؛
• جلب الاستثمارات مما سيمكن من جلب التقنيات الحديثة والذكية كالشبكات عالية السرعة بما فيها شبكات الألياف البصرية وشبكات الاستشعار والسلكية واللاسلكية اللازمة للوصول إلى المدينة الذكية”.
• تحسين مستوى عيش المواطنين عبر تحسين مستوى الخدمات التي تقدم لهم.

خاتمة:

من خلال ما سبق، يمكن القول إن المدينة الذكية هي مدينة تقوم على ثلاث ركائز أساسية، البنية التحية الملائمة القادرة على مواكبة التقدم التكنولوجي الهائل، ثم الإدارة الراشدة مع ما يتطلبه ذلك من كفاءة الرأسمال البشري في توظيف المعلومة، وأخيرا الساكنة الفاعلة والمتفاعلة.
غير أن العائق الأكبر الذي قد يحول دون تنمية المدن الذكية يكمن من جهة في تكلفتها الباهضة، مما يطرح بشكل حاد إشكالية تمويلها، ومن جهة أخرى في مدى استعداد الدول المتقدمة لنقل التكنولوجيا للدول الأخرى.

إعداد:ذ/عبد الغني كرومي



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق