الصفحات

الحكامة عن طريق التدبير المندمج للموارد المائية في المغرب


منذ استقلال البلاد في سنة 1956، ومن أجل مواجهة تساقطات مطرية غير كافية بوجه العموم ومتسمة بعد الانتظام الجغرافي، انتهج المغرب سياسة لتدبير الموارد المائية أتاحت تعبئة ناجعة نسبيا للمصادر المائية التقليدية، السطحية منها الجوفية، التي تتوفر عليها المملكة.

أطلق الراحل الملك الحسن الثاني سياسة مستنيرة لبناء السدود، التي صارت منذ ذلك الحين توجها رئيسيا للبلاد. هذه السياسة الإرادية، التي شكلت عنصرا مهيكلا في تدبير الموارد المائية الوطنية، آتت أكلها في مجال تخزين المياه المتساقطة والسطحية، مما أتاح توسيع مساحة الأراضي المسقية إلى مليون ونصف مليون هكتار، والحد بقدر ملموس من مخاطر الفيضانات.

من جانب آخر، وفي مجال تدبير الموارد المائية، شكل  نظام الحكامة المعتمد على وحدة الحوض المائي دعامة أساسية في وضع مقاربة محلية لتدبير المورد المائي، مع تبني مبادئ التضامن بين الجهات والمساعدة عن طريق الدعم من قبل الدولة، من أجل تدارك تأثير الفوارق المجالية الكبيرة. وقد كان القصد من استراتيجية إحداث تسع وكالات لأحواض الماء أن تكون حاملة لتدبير مندمج، لامركزي، تشاركي وتشاوري للموارد المائية، مما مكن من تعميم الولوج إلى الماء الصالح للشرب إلى ما يقارب 94 بالمائة من الساكنة القروية، مع تعميم كامل على الساكنة الحضرية.
لكن وفي غياب إطار مهيكل، لم يجد التشاور الظروف الملائمة للتطبيق. فرغم وجود الوزارة المنتدبة المكلفة بالماء، ووجود المجلس الأعلى للماء والمناخ – الذي تم تشكيله في انسجام مع الفصل 13 من قانون الماء 10-95، والذي كان الغرض منه إعطاء اقتراحات و توجهات حول المخططات المديرية العامة للسياسة الوطنية للماء – إلا أن نطاق صلاحيات كل واحد من الفاعلين المؤسساتيين لم يبلغ بعد مرحلة النضج والنجاعة الضروريين لجعلها واضحة. أضف إلى ذلك أن الجهاز الوحيد المكلف بتحقيق الانسجام والالتقائية والتنظيم الميداني، المتمثل في اللجنة الوزارية المشتركة للماء، قد توقف عن العمل منذ سنوات، مما يحد إلى درجة كبيرة من فعالية عمل الفاعلين. ومن جانب أخر فإن أثر تعدد الفاعلين ووضعية عملهم التي تتراوح بين التغطية المتعددة وغياب التغطية، يصبح المشهد العام للعمل المشترك شديد التعقيد ومسببا لاحتلالات كبيرة، وبالتالي غير ناجع.
إذا كانت أوجه النقص التنظيمي هذه لم تفض إلى أثر سلبي في ما قبل، فإن الوضعية الحالية تندرج في سياق أكثر إكراها بكثير، وخصوصا مع طلب لا يفتأ يتزايد، وعرض تتهدده عوامل منها التغيرات المناخية ونفاد أو تردي جودة الموارد التقليدية، بسبب الأعمال البشرية المضرة، التي تفاقم من أثرها حكامةٌ غير ناجعة، ينبغي إعادة النظر حاليا في تنظيمها وكفاءتها.
بهذا الصدد، ينبغي العمل على دراسة بدائل أخرى في إطار الاستراتيجية الوطنية للماء. فلم يعد يجدي الاكتفاء بما تتيح لنا الطبيعة تقليديا تعبئته، بل يتعين الدفع بتعبئة الموارد غير التقليدية إلى الحد الأقصى الممكن. فالاهتمام بإمكانات تحلية مياه البحر، وإعادة استعمال المياه العادمة المصفاة، وتحفيف تركيز المياه الأجاج من الاملاح المعدنية، مع العمل في الآن نفسه على عقلنة الطلب، من شأنها أن تتيح ربحا مزدوجا.
فالتوجيهات التي تضمنها الخطاب الملكي السامي بمناسبة الدورة التاسعة للمجلس الأعلى للماء والمناخ في سنة 2001، تندرج مباشرة وبكل وضوح في منطق "الماء والتطهير السائل، حق للجميع"، وهي متضمنة في رؤية استراتيجية للتنمية المستدامة، وتدعمها وتدعو إليها عدد من النصوص التشريعية والاتفاقات المصادق عليها من قبل المغرب، وخصوصا الفصل 31 من الدستور المغربي لسنة 2011، وتقرير المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي الصادر في 2011 تحت عنوان "من أجل ميثاق اجتماعي جديد: معايير يتعين احترامها، وأهداف يتعين التعاقد حولها"، والقانون الاطار رقم 99-12المتعلق بالميثاق الوطني للبيئة والتنمية المستدامة، والهدف السابع من أهداف الألفية للتنمية، وبصفة أساسية، الخلاصة التي انتهت إليها الجمعية العامة للأمم المتحدة في 2010، والتي تعترف بالحق في ماء صالح للشرب صحي ونقي كحق مطلق وأساسي للممارسة التامة للحق في الحياة ولكل حقوق الإنسان.
ولتحقيق مقتضى هذه القرارات يقتضي انتهاج سياسة تكون في الآن ذاته حمائية ومثمنة للمورد، وفوق ذلك مجددة مبتكرة ومستفيدة من أفضل الممارسات الدولية في مجال الحكامة. ومن ثمة فإن التركيز على الرفع من نجاعة أنماط التدبير الحالية للموارد المائية يبدو أمرا صائبا. وهذا التقرير يرمي إلى أن يكون حاملا لرؤية مشتركة بين جميع الاطراف المعنية و مكونات المجتمع المدني، ويقترح تحسينات وقطائع كبرى، تترجم على شكل توصيات عملية منظمة حول تدبير مندمج للماء، بصفته رافعة للتنمية الاجتماعية-الاقتصادية المستدامة للبلاد.
ولكي تكون هذه المقاربة صحيحة وفعالة، ينبغي لها أن تعلن عن توجهها وأن تجري حسب مبادئ خيارات سياسة صائبة وواضحة وشفافة لاتخاذ القرار بطرق نوعية، تحت إشراف الجهاز الميداني المعني. وبشكل مثالي، وطبقا لمبادئ الديمقراطية التشاركية، فإن الخيارات المتعلقة بالمشاريع وبتوطين الحلول التقنية، ينبغي لها أن تصدر عن الساكنة المحلية، وأن تدمج السياقات الجهوية والمحلية، وبحضور فعلي لفعاليات المجتمع المدني والمستعملين في مسلسل اتخاذ القرار. كما ينبغي لها أن تستشرف المستقبل من خلال توطين تضامن بين الجهات وما بين الأجيال، بما يضمن الاستجابة لحاجيات الساكنة المستقبلية، من خلال دعم تدبير المعرفة بالمخاطر المرتبطة بالماء، من أجل إتاحة العمل الاستباقي، وإن اقتضى الحال تأقلما استجابيا سريعا و مخططا بطريقة مسبقة.
يبين تشخيص الوضعية الراهنة المتعلقة بتدبير الموارد المائية أن الوزارة المكلفة بالماء والمجلس الأعلى للماء والمناخ لا يمثلان في الواقع أدوات حقيقية للتنسيق. أضف إلى ذلك أن اللجنة الوزارية المشتركة للماء متوقفة عن العمل، ووكالات الأحواض المائية قليلة الفعالية بسبب نقص الاستقلالية في القرار وعدم كفاية الموارد البشرية والمخصصات المالية.
على المستوى التنظيمي، ورغم أن قانون الماء رقم 10\95 سعى إلى التلاؤم مع الإشكاليات القائمة، إلا أنه يظل غير منسجم مع الوقائع المستجدة والحاجيات الحالية، إضافة إلى أنه يشكو من فعلية ضعيفة لنصوصه التطبيقية.
وعموما فإن أنماط التخطيط والتنفيذ الحالية التي تتطلب آجالا مفرطة ووضعيات تفاوت بين المشاريع الفرعية، مما يلزم إعادة النظر فيها جميعا. ويجب أن يكون التشاور والانسجام و الالتقائية بمثابة حجر الزاوية في كل تخطيط للفاعلين المؤسساتيين العاملين في قطاع الماء.
من هذا المنظور يتضح أن العمل الذي يتعين القيام به هو عمل مزدوج، يهم بالمقام الأول تثمين الموارد مع مراعاة وضعيتها الحرجة من أكثر من جانب، وخصوصا المخاطر المرتبطة بالاستغلال المفرط للفرشات المائية ذات نسبة التجدد الضعيفة، وقدرات التخزين النظرية للسدود وقدراتها الحقيقية باعتبار مفعول تراكم الأوحال، والفارق بين زمن التخزين في السد وبين اجل استغلاله في السقي، والماء الذي يضيع نتيجة ذلك من أثر التبخر، وأخيرا الاستعمال الضعيف للمياه العادمة المصفاة. وتجدر الإشارة كذلك إلى المساهمة الضعيفة للموارد المائية في الإنتاج الكهرومائي الشامل للبلاد. أما في المقام الثاني فيأتي المحور المتعلق بحماية الموارد المائية، من خلال أجرأة و تفعيل النصوص المتعلقة بمبدأ "الملوث المؤدي" المنسية حتى اليوم، ثم تطوير التطهير السائل ومحطات تصفية المياه العادمة، من أجل تعميمها، وأخيرا تحديد معايير الحماية الكفيلة بالحد من التلوث الذي قد يرتبط بها.
واعتبارا لكون إشكالية الماء إشكالية عالمية، وخصوصا بالنسبة للبلدان ذات المناخ القريب نسبيا من مناخ المغرب، فقد بدا من الضروري القيام بدراسة مقارنة دولية تشمل 4 بلدان، يمكن اتخاذها كنماذج لاستنباط بعض الدروس المفيدة في مجال حكامة الماء.
قامت إسبانيا، البلد الذي يعد أكثر بلدان أوربا جفافا، مع تفاوت كبير بين شمال البلاد وجنوبها، بوضع إطار مؤسسي منظم من أجل تدبير الماء، وهو تدبير يقع عبئه بالأساس على كاهل الكنفدراليات الهيدروغرافية الملحقة بكل حوض مائي، على حين يتكفل جهاز استشاري مستقل بتأمين التشاور والمشاركة، هو المجلس الوطني للماء، الذي يمثل مختلف الفاعلين في الميدان. كما أن إسبانيا تتميز من جانب آخر بكونها رابع مستعمل لتقنيات تحلية مياه البحر في العالم.
أما في فرنسا، فإن سياسة الماء على المستوى الوطني من شأن وزارة البيئة والتنمية المستدامة والنقل، في حين يعود التنسيق بين مختلف القطاعات إلى البعثة الوزارية المشتركة للماء. كما أن التدبير المحلي مقسم حسب الأحواض المائية، حيث تتكفل لجان الأحواض برسم التوجهات الكبرى لتدبير الماء داخل كل حوض، ووكالات الماء بتفعيل ذلك التدبير. وهو يقوم على سبعة مبادئ أساسية هي التالية: تدبير لامركزي على مستوى الأحواض النهرية الهيدروغرافية، ومقاربة مندمجة، وتنظيم المشاورات والتنسيق، والتخطيط والبرمجة على مدى سنوات متعددة، وتسعير الماء حسب الكميات المستخرجة والاستهلاك، وتعبئة الموارد المالية النوعية المشتركة على مستوى الحوض، وتوزيع واضح للمسؤوليات بين السلطات العمومية والفاعلين الخواص في تدبير المرافق البلدية للماء الصالح للشرب والتطهير السائل.
أما الأردن، الذي يعد من بين البلدان العشرة الأكثر خصاصا من الماء في العالم، والذي يقتسم بالإضافة إلى ذلك موارده المائية مع جيرانه، فإن التدبير التعاوني لهذه الموارد العابرة للحدود يفرض نفسه على البلاد، كما أن استراتيجيتها الشاملة تنبني على سبل تغطية الكلفات المختلفة المرتبطة بالماء، والنهوض بالتقنيات والأنظمة المقتصدة للماء، والبحث عن تحقيق الإنتاجية القصوى، وتحسيس الساكنة بضرورة الاقتصاد في استهلاك الماء. أما السياسة الداخلية في مجال الماء فتنتظم حول ثلاثة فاعلين رئيسيين، أولهم وزارة الماء والري، المكلفة بإعداد السياسة الوطنية، والثاني سلطة الماء لنهر الأردن Water Authority of Jordan، وهي مؤسسة عمومية مستقلة مكلفة بمهام التخطيط والتنفيذ والصيانة للبنية التحتية المائية العمومية، بموازاة مع تدبير رخص الاستعمال، والتزويد بالماء الصالح للشرب، وتدبير التطهير، والثالث سلطة وادي الأردن Jordan Valley Authority، وهي مؤسسة مسؤولة عن تطوير واستعمال وحماية الموارد المائية لوادي الأردن. كما يعتمد الأردن كذلك على انخراط القطاع الخاص في مجال الماء.
وأما في تونس، فقد انتقلت سياسة الماء من تدبير  للعرض خلال العقود الثلاثة المنصرمة، إلى تدبير للطلب، وذلك من خلال القيام في 1995 بوضع برنامج وطني لاقتصاد الماء في الري PNEEI، يهدف إلى بلوغ نجاعة شاملة بنسبة 85 بالمائة في أفق 2025. من جانب آخر، يتم التمييز بين تدبير الماء الصالح للشرب وأعمال التطهير، حيث تتكفل بتدبير الماء الصالح للشرب الشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه، على حين يوكل تدبير قطاع التطهير إلى المكتب الوطني للتطهير، المسؤول كذلك عن حماية الموارد المائية من التلوث.
في هذا الاطار، واعتبارا للإكراهات الحالية التي تعرفها الموارد المائية بالمغرب التي تم رصدها في هذا التقرير، وأمام الرهانات والتحديات اللازم التغلب عليها، فيما يتعلق بالحكامة عن طريق التدبير المندمج للموارد المائية، يدعو المجلس الاقتصادي والاجتماعي و البيئي السلطات العمومية إلى تسريع الوتيرة الحالية لتفعيل الأهداف المحددة، في أفق 2020، في الاستراتيجية الوطنية للماء والبرامج القطاعية في مجالات التطهير السائل واقتصاد الماء في الري. في نفس السياق، يوصي المجلس كذلك بتحديد أهداف جديدة مرتبطة بتعميم اقتصاد الماء في الاستعمالات الصناعية والسياحية والمنزلية. وسيمكن هاذين المحورين من  تحقيق تعبئة إضافية للمياه قدرها 6.4 مليار متر مكعب من الماء سنويا، وهو ما يمثل أكثر من 25 بالمائة من مجموع الموارد المائية لبلادنا، وأكثر من ستة أضعاف المياه المستخرجة حاليا من الموارد غير المتجددة، موزعة كما يلي:
  -   31 بالمائة من خلال بلوغ الهدف المتمثل في إنتاج 400 مليون متر مكعب من الماء سنويا، من تحلية مياه البحر وتخفيف تركيز المياه الأجاج من الاملاح المعدنية؛
 -   27 بالمائة من خلال مواصلة سياسة السدود؛
 -   5 بالمائة من خلال إعادة التوجيه المكثفة نحو السقي المركز والسقي بتقنية الرش؛
 -   11 بالمائة من خلال إعادة استعمال المياه العادمة المصفاة واقتصاد الماء في الاستعمالات الصناعية والسياحية والمنزلية؛
 -   6 بالمائة من خلال تحسين شبكات الربط والتوزيع.
ومن أجل تفعيل هده الرؤيا يتعين جعل الحكامة المؤسساتية الحالية مرتكزة أكثر على التدبير المندمج للموارد المائية، النجاعة و الشفافية و في هدا الاطار يقترح المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي 10 توصيات مترجمة إلى إجراءات عملية كما يلي( أنظر التوصيات المفصلة في الفصل 6):​
  1. 1. دعم التشاور والتدبير المندمج للموارد المائية على المستوى الوطني
  2. 2. دعم التشاور والتدبير المندمج للموارد المائية على المستوى الجهوي والمحلي
  3. 3. تأهيل وأجرأة الجهاز التشريعي والتنظيمي لقطاع الماء
  4. 4. توفير عدد أكبر من وسائل تعبئة الموارد المائية مع تنويعها
  5. 5. تعزيز محور "تدبير الطلب" في الاستراتيجية الوطنية، عبر برامج وطنية للتحكم في الطلب، واقتصاد الماء، وتثمين الموارد المائية على مستوى مجموع سلسلة القيم لقطاع الماء
  6. 6. تعزيز آليات والبرامج الوطنية لحماية الموارد المائية
  7. 7. النهوض بالشراكة بين القطاعين العمومي والخاص في مجال الماء
  8. 8. تطوير نموذج للتدبير العادل والمستدام اقتصاديا لقطاع الماء
  9. 9. ملاءمة برامج التربية والتكوين و الابتكار العلمي والتحسيس مع تحديات قطاع الماء
  10. 10. تعزيز قدرات المتدخلين في قطاع الماء في مجال تدبير معرفة المخاطر و التغيرات المناخية​.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق