الصفحات

دور القضاء في تحقيق الأمن والإستقرار



أوضحت التجارب وبينت جليا أن مصلحة الأفراد والجماعات لا تكمن فقط في سن القوانين أو النصوص التنظيمية، للقول بوجوب الإنصياع لها وفرض تطبيقها، بتبرير وجود دولة الحق والقانون، بل إن الأمر يتعدى ذلك ويتطلب بالإضافة إلى النصوص التشريعية والتنظيمية المحكمة، أو المستجيبة للمصالح الإجتماعية والإقتصادية، تحقيق ما يسمى بالأمن القضائي، هذا الأخير الذي يتجلى في توفير الإطمئنان للمتقاضين لدى المؤسسة القضائية، وهذا لن يتأتى إلا بالرقي بمستوى الخدمات التي يؤديها مرفق القضاء، من خلال جودة الأداء وإستقرار الإجتهاد والعمل القضائيين بما يتوازن وروح التشريع وتحقيق العدل بين مكونات المجتمع، ولا يختلف لديه في ذلك بين الأفراد أو الجماعات والأشخاص المعنوية أو الإدارة والمؤسسات العمومية، إذ أن الأمن القضائي يعتبر حقيقة ملاذا للكل لدرء تعسف البعض وطغيانه.

وقد أثبتت التجارب الإنسانية العالمية أنه مهما وضعت النصوص القانونية الملائمة، فإنها تبقى دائما قاصرة عن إيجاد الحلول لكل النوازل والقضايا، لأنها تبقى أولا من صنع البشر المتسم بطبيعته بالنقص، ولأنها – أي النصوص- تتناهى باعتبار عددها، علما أن الوقائع لا تتناهى من حيث دلالاتها، فيبقى الملاذ إذن هو القضاء لتدبر هاته الوقائع اللامتناهية والإجتهاد الخلاق في إيجاد حلول لها.

وعليه، فإنه لتوفير الأمن القضائي ينبغي تأهيل مهنييه، كما جاء في خطاب جلالة الملك محمد السادس بمناسبة عيد العرش، الذي جاء فيه بأنه ” يتعين على الجميع التجند لتحقيق إصلاح شمولي للقضاء لتعزيز استقلاله الذي نحن له ضامنون، هدفنا ترسيخ الثقة في العدالة، وضمان الأمن القضائي الذي يمر عبر الأهلية المهنية والنزاهة، والإستقامة وسيلتنا لصيانة حرمة القضاء وأخلاقياته ومواصلة تحديثه وتأهيله…”

بالتالي، فإن الأمن القضائي يعتبر إحدى الوظائف الأساسية للدولة، الذي يحوز دورا فعالا في حماية الحقوق وإستقرار المعاملات والتحفيز على الإستثمار، من أجل تحقيق التنمية الإقتصادية والإجتماعية، فإنه كان من الضروري على المشرع المغربي أن يولي عناية خاصة للجهاز القضائي، وذلك بجعله سلطة مستقلة عن السلط التشريعية والتنفيذية، كبداية تعتبر من أولى الخطوات لتحقيق الأمن القضائي المنشود.
وإذا كان تاريخ المغرب قد أفرد للقضاء مكانة هامة ومحورية في ترسيخ وحدة الدولة والحفاظ على مقوماتها، وذلك بوجود سلطة قضائية مستقلة بكل ما تحمله هذه الكلمة من معاني ودلالات، يكون هدفها خدمة المواطن وحماية حقوقه وحرياته وأمنه القضائي والتطبيق العادل للقانون.

فقد أصبحت هاته المبادئ حقوقا دستورية مقررة لفائدة المواطن، والتزاما يقع على عاتق القضاء أداؤه وتنفيذه على أحسن وجه، وفي هذا السياق فإن أهمية المرحلة التي يعرفها المغرب بعدما أصبحت الوثيقة الدستورية الجديدة سارية المفعول، وبعد استنفاد كافة الآليات القانونية والديمقراطية، وإتباع منهج تشاركي تشاوري سواء في اقتراحها أو إعدادها أو بلورتها، ومن ثم نشرها في الجريدة الرسمية، فإنها أضحت قضية وجب علينا الآن إنزالها إلى أرض الواقع، وتفعيلها ليحس المواطن والمتقاضي بآثارها الملموسة على أمنه القضائي، ولئن كان هذا التفعيل الإيجابي كهدف، يقتضي منا كدارسين وباحثين تحليل الموضوع من كافة جوانبه المتشعبة ومناهجه المتنوعة، نظرا لما يحمله من أبعاد قانونية وحقوقية إقتصادية واجتماعية ودينية وأخلاقية وسياسية، قبل أن يكتسي أبعادا وطنية ودولية، ليطرح الكثير من المقاربات والمداخل، ويفرض الكثير من التساؤلات والتصورات.

والحقيقة أن موضوع الأمن القضائي هو من المواضيع التي تحتفظ براهنيتها الممتدة في الزمن المستقبل، فهو مقياس أصيل في بناء دولة الحق والقانون، وسيادة ثقافة حقوق الإنسان والحكامة الجيدة في تدبير الشان العام عموما والشان القضائي على وجه الخصوص، سيما وأن معدل الثقة في القانون وفي جهاز العدالة أصبح يتراجع يوما بعد يوم، وهو ما أثر سلبا على فرص الإستثمار الأجنبي ببلادنا باعتباره المعول عليه من اجل تحقيق التنمية الإقتصادية والإجتماعية المنشودتين.

إن للقضاء تأثير كبير على الأمن القضائي، فبقدر ما يكون ناجعا و متطورا بقدر ما يوفر ثقة كبيرة للمجتمع فيه، وللفرد في اللجوء إليه لكي تسترد له حقوقه، في حين تتجلى نجاعة القضاء في مدى استقلاله و تحديثه هذا من جهة، لكن من جهة أخرى أعمق نرى بأن إجتهاد القاضي في عمله يعطي صورة مباشرة للمتقاضي لمعرفة مدى نزاهته و حياده، ولذلك سنحاول أن نتناول في هذا المبحث دور استقلال القضاء و تحديثه و دور الاجتهاد القضائي في تحقيق الأمن.

أولاً: دور استقلال القضاء وتحديثه في تحقيق الأمن القضائي:

يعتبر مبدأ استقلال القضاء من الضمانات الأساسية للمحاكمة العادلة، ومعنى ذلك أن تصدر الأحكام عن سلطة قضائية مستقلة و محايدة، و مشكلة بحكم القانون، وبالتالي هو ما يجعله رهانا قويا لتوفير أمن قضائي بجودة عالية للمترفقين – أي المترددين على مرفق القضاء – واستقلال القضاء أيضاً هو مبدأ دستوري عالمي عملت جل الدساتير الحديثة على الأخذ به وتفعيله على مستوى الممارسة.
كل هذا يدفعنا إلى مناقشة دور استقلال السلطة القضائية في توفير الأمن (الفقرة الأولى) و مسألة استقلال القاضي و نزاهته و دورهما في تحقيق الأمن القضائي (الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى: إستقلال السلطة القضائية في توفير الأمن:

يعتبر استقلال السلطة القضائية مبدءا عالميا نصت عليه العديد من الإتفاقيات والمواثيق الدولية، ووضعت له مبادئ أساسية، ولعل المغرب بدوره يتماشى في السير العالمي لتكريس هذا المبدأ، الذي يقصد به – مبدأ استقلال السلطة القضائية – استقلال القضاء عن السلطتين التشريعية و التنفيذية، ويعتبر هذا المبدأ من النقط الفاصلة و المساهمة في إحساس الفرد والمجتمع بالثقة والأمان لكل من طرق بابه، ولذلك جاء الدستور الجديد ليكرسه وبقوة، من خلال الفصل 107 منه.

تبعا لذلك يمكن القول بأنه يعتبر أي تدخل في أعمال القضاء يشكل مساسا باستقلاله، وفعل معاقب عليه، ومنه أن القضاة وهم يمارسون مهامهم يمنع عليهم تلقي أي أوامر أو تعليمات، أو الخضوع لأي ضغوط كيفما كان شكلها أو مصدرها، وألزمهم القانون الإجرائي بإحالة كل تهديد لاستقلالهم على المجلس الأعلى للسلطة القضائية تحت طائلة المساءلة والعقاب.

فترسيخا لمبدأ الاستقلال تم إحداث مؤسسة المجلس الأعلى للسلطة القضائية بتركيبة ووظائف جديدة، مع فك ارتباطها إداريا وماليا عن وزارة العدل، انسجاماً مع المعايير القانونية وانسجاما مع مقتضيات المواثيق الدولية بخصوص تفعيل إستقلال السلطة القضائية، التي يقع على عاتق الدولة التكفل بتحقيقه إداريا وماليا في استقلال تام عن السلطتين التشريعية والتنفيذية.

كما يفرض استقلال السلطة القضائية البت في القضايا المعروضة عليه، وفقا للقانون دون تحيز وبعيدا عن أية قيود أو ضغوط أو تهديدات أو تدخلات.

والمقصود باستقلال السلطة القضائية لا يقف عند حدود قضاة الأحكام فقط، بل يمتد ليشمل حتى قضاة النيابة العامة، بحيث أن المشرع الدستوري أوكل لقضاة النيابة العامة السهر على التطبيق السليم للقانون، ترسيخا للعدالة وحقوق الإنسان والحريات الأساسية للأفراد.

علما أن إحساس المجتمع بالثقة في المؤسسة القضائية رهين بإصلاحها وإبعادها عن أي تدخل خارجي يمكن أن يضر بحقوق المواطنين و حرياتهم، وبالتالي فإن ذلك لن يتأتى مبدئيا إلا بإرادة حقيقة وواعية بأن استقلال السلطة القضائية هو من بين أولى خطوات بناء دولة الحق و القانون، وتوفير الأمن القضائي، وكما لارتباطه بأم الحاجيات الانسانية التي هي الإستقرار الإجتماعي.

الفقرة الثانية: تحديث القضاء وتطويره لتوفير الأمن:

يعتبر تحديث القضاء و تطويره إحدى أهم أوراش الإصلاح القضائي، فمن خلال الدراسات والأبحاث الأخيرة التي أجريت في الموضوع تبين بالملموس أن المؤسسة القضائية لا ترقى إلى المستوى المطلوب، وبالتالي هو ما يقف عائقا أمام عجلة التنمية الإقتصادية و الإجتماعية.

وعليه، فإن جودة و فعالية العمل القضائي رهينة بنوعية الوسائل و المناهج المتبعة من قبل القاضي، ولعل من أهمها طريقة إستعمال المواد القضائية التي يعتمد عليها هذا الأخير في الفصل في القضاياالتي تعتبر نقطة سوداء في الممارسة القضائية ببلادنا، وهو ما يجعلنا نعترف بأن غاية الأمن القضائي لن تتأتى إلا باستعمال المادة القضائية بطريقة سليمة ويسيرة.

ومهما يكن من أمر، فإن مهمة القضاء تكون وتبقى هي السهر على التطبيق السليم للقانون، ما يجعله ينقل القاعدة القانونية من حالة السكون والركود إلى الحركة والدينامية، لكن هذا التطبيق المنشود رهين بسلامة الترسانة القانونية، والتي من خلال إطلاعنا على القواعد القانونية المغربية، نلاحظ بأن المملكة المغربية تمشي في الإتجاه الصحيح لتوفير الأمن القضائي، وهو ما يعكس الإرادة السياسية لصاحب الجلالة الملك محمد السادس الذي ما فتأ في كافة خطبه السياسية لينتقد ويوجه الآداء الإداري، لمختلف المرافق العمومية، الذي يعتبر مرفق القضاء أحد مقومتها وركيزة للدولة والمواطن على حد السواء.

ومن المجهودات الأفقية التي نهجها المشرع لفرز قضاء فعال وذوا جودة عالمية، عمل – المشرع المغربي- على إدخال مجموعة من التعديلات على القوانين، تتعلق هذه الأخيرة بقانون الشركات ومدونة التجارة، فضلا عن مدونة التأمينات وقانون حرية الأسعار والمنافسة، ومدونة الأسرة، مدونة الشغل، المساطر الجنائية والمدنية، القانون الجنائي والمدني، وغيرها من القوانين الخاصة والعامة.

أما على المستوى العمودي للقضاء، فقد سهر المشرع على اعتماد مبدأ التخصص في الفصل في القضايا تماشيا مع التنوع والتعدد الذي تعرفه هاته الأخيرة، حيث تم إحداث محاكم إدارية وغيرها تجارية ومحاكم استئناف إدارية و تجارية، و أقسام لقضاء الأسرة وقضاء القرب، وهو مايجعل الهيكلة القضائية ببلادنا متنوعة ومنسجمة مع مختلف القضايا المعروضة عل القضاء.

كذلك، ولمواجهة نقطة سوداء في الممارسة القضائية وهي ظاهرة البطء التي يسير بها العمل القضائي، قامت وزارة العدل بنظرة استباقية إداريا على إعتماد نظام المعلوميات لمختلف المحاكم المغربية، قصد الإنفتاح على قضاء عالمي وقريب من المواطن مقاربة بالقوانين المقارنة كمصر أو تونس، أو الأردن، كل ذلك جاء من أجل مواكبة المرحلة، وعصرنة الآلية القانونية الموضوعة رهن إشارة القاضي لكي يوظفها في اختصاصه، تحقيقا للأمن القضائي المنشود بالجودة المطلوبة التي يتطلع إليها مواطن اليوم.

أما الإجتهاد القضائي في ما يخص انعكاسه على الأمن القضائي، والذي يظهر تحولا سريعا تأسيسا على الدستور الجديد للملكة المغرببة لسنة 2011 الذي شكل طفرة نوعية في مجال حقوق الإنسان، بتكريسه للحق في الأمن القضائي، بخلاف التشريع المقارب ومقارنة بالدستور الفرنسي الحالي الذي لا يشير مطلقا إلى الحق في الأمن القانوني أو القضائي، مما دفع المجلس الدستوري إلى رفض اعتبار الأمن القانوني مبدأ دستوريا قائم الذات، و إنما اعتبره مجرد معيار ضمني لمراقبة دستورية القوانين فقط.

وبالرجوع للدستور المغربي نجد الفصل 110 من الدستور نص على أنه “لا يلزم قضاة الأحكام إلا بتطبيق القانون ولا تصدر أحكام القضاء إلا على أساس التطبيق العادل للقانون”.

فإن تطبيق مبدأ دولة الحق والقانون يفرض على المجتمعات أن تضمن الإستقرار وعدم التراجع عن القواعد التي تم الاعتراف بها داخليا، وهو أمر ينطبق على جميع المؤسسات بما فيها القضاء نموذجا، فاعتماد تفسير موحد للقانون من طرف القضاة هو عنصر من عناصر استتباب الأمن داخل الدولة، فبفضله يمكن للمتقاضين توقع نتيجة أفعالهم، بمنأى عن كل تعسف.

وحيث يستشف أن ظاهرة التحولات الطارئة على الاجتهاد القضائي تعتبر جزءا لا يتجزأ من حياة القضاء، وعلامة على تلاؤمه مع الواقع وعدم تخلفه عن ركب التطور، إلا أنها تشكل خطرا حقيقيا على الأمن القضائي.

وانطلاقا مما أشرنا إليه سنحاول إبراز مدى التأثير السلبي لتحولات الإجتهاد القضائي على الأمن القضائي من جهة أخرى، ثم السبيل لمعالجته، بالإضافة إلى مدى التأثير السلبي لظاهرة تحولات الإجتهاد القضائي على ضمان الأمن القضائي.

ثانياً: دور الإجتهاد القضائي المتحول في تحقيق الأمن القضائي

من المؤكد أن تحولات الإجتهاد القضائي بصرف النظر عن مسبباتها وشرعيتها، من شأنها أن تخلق جوا من الإضطراب و عدم الإستقرار، وعدم الشفافية في تطبيق القاعدة القانونية، كما أنها تجهز على الثقة المشروعة للمواطن في نظرته للإدارة، و التي تولدت لديه في سياق استتباب الأوضاع القانونية التي أجرى تصرفاته في ظلها على الإستقرار القانوني، والأخطر من ذلك أنها قد تسطو في غفلة منه ودون توقعه على حقوقه المكتسبة في ظل الاجتهادات السابقة.

فالاجتهاد القضائي الجديد يطبق بقوة القانون و بأثر رجعي على جميع ما كان بإمكان الأشخاص القيام به أو الامتناع عنه استنادا لنص و روح الاجتهاد القضائي القديم، حتى مع اعتبار أن القرار القضائي موضوع الإجتهاد الجديد دعوى لا يهم سوى أطرافه وفق مبدأ نسبية الأحكام، فإن رجعية الاجتهاد القضائي تشمل الجميع، أطرافا للدعوى أو غيرهم، ذلك أن مفعول الإجتهاد القضائي الجديد يسري عليهم بشكل غير مباشر، و خالف توقعاتهم ومبادراتهم، بل إنهم قد يتعرضون للجزاء دون تنبيه أو إخطار من أجل أي فعل أو امتناع لم يكن غير شرعي وقت اقترافه.

حيث أن قواعد الإجتهاد القضائي الثابتة و المستقرة تمنح الفاعلين مع مرور الوقت رؤية واضحة و إطار لتصرفاتهم، بينما تحولات الإجتهاد القضائي ورجعيته تؤثر سلبا على هذا النظام.

وقد عبر الفقه بمختلف فرقائه القول على أن” تحول الإجتهاد يترتب عنه عدم الأمن القانوني، فالحل الجديد الناتج عن التحول يطبق بقوة القانون على القضايا التي ارتبطت على ضوء الثقة في الحل القديم “.
ومنه يمكن القول بأن المشرع عندما وضع مبدأ عدم رجعية القوانين لم يضع مبدأ لعدم رجعية الإجتهاد القضائي، ربما يمكن تبرير ذلك أنه لم يكن واعيا حينها بإفراغ الإجتهاد القضائي من قيمته القانونية و ما لتحوله من أثر على الأوضاع القانونية كذلك.

ولإبراز أهمية تحولات الإجتهاد على المراكز القانونية للخصوم في الدعوى وإطارها القانوني سنورد بعض النماذج من العمل القضائي :
قرار المجلس الأعلى “أتاح لمن تجاوز أرضه إلى أرض غيره ولو كانت عقارا محفظا وبنى فيها بحسن نية أن يمتلك هذا البناء استنادا لحكم المحكمة التي يحق لها في إطار تطبيقها للقاعدة الفقهية بإزالة الضرر أن توازن بين الضررين اللذين التقيا، وهو الضرر الذي سيحصل للباني من جراء هدم ما بناه في ملك الغير، والضرر الذي سيحصل للمالك بسبب تخليه دون إرادته عن جزء من ملكه مقابل حصوله على تعويض بالقيمة، و أن تقرر تغليب أخفهما، وهو ما يفيذ ضمنيا إجبار مالك العقار على التخلي عن ملكه بمقتضى حكم نهائي، في حين أن الإجتهاد القضائي المستقر يؤمن أن البناء في ملك الغير لا يخول للباني ولو كان حسن النية حق تملك البناء أو العقار الذي بني فيه ” ومنه نلمس من القرارات التي تختلف أن الأوضاع و المراكز القانونية القائمة قبل الاجتهاد القضائي يطرأ عليها بفعله و بصورة فجائية تغيير جذري أيضاً وحاسم، بل الأكثر من ذلك إن تحول الإجتهاد القضائي في مجال القضاء الجنائي يمس في الصميم مبدأ شرعية الجرائم، والذي بمقتضاه يوكل للسلطة التشريعية وحدها تحديد صور السلوك المعاقب عليه.

ولعل من سبل معالجة التأثير السلبي لتحولات الاجتهاد على ضمان الأمن القضائي ، استنادا لما أقرت محكمة النقض الفرنسية عليه، بقولها ” إن متطلبات الأمن القانوني وحماية الثقة المشروعة المثارين من طرف الطاعن في وسيلة النقض للمنازعة في تطبيق المحكمة المطعون في قرارها لاجتهاد قضائي جديد يحد من حقه في التقاضي، بحيث ليس من شأنها تكريس حق مكسب لاجتهاد قضائي جامد وغير متحرك، والذي يبقى تطويره من صميم وظيفة القاضي في تطبيقه للقانون “.

كما رأينا أنه يمكن تبرير ذلك إلى حد ما، بما جاء في تعبير سابق، لكن يجب أن نسجل بخط أحمر أن الإجتهاد القضائي و تحوله يطبقان بأثر رجعي، وهذه الرجعية من شأنها المساس بالأمن القانوني والقضائي والإضرار بالحقوق المكتسبة، والإخلال بمبدأ المساواة أمام القانون والقضاء.

ونؤكد في هذا السياق على أن الإجتهاد القضائي لا يعتبر محايدا بالمرة، واعتبار الإجتهاد القضائي لا يخلق القاعدة القانونية، و إنما هو مجرد تفسيرةبريء لها، و أن تحولاته ماهي إلا فهم جديد لمعنى قائم في النص القانوني وقت إنشائه، لن يحقق لنا العدالة القانونية.

وينبغي الإنطلاق مما جاء به الدستور الجديد بتكريسه الحق الدستوري في الأمن القضائي، بتحقيق ضمان الأمن القضائي بالحفاظ على الأوضاع القانونية القائمة وتجنب الحكم عليها بأثر رجعي، وعند الاقتضاء وضع مقتضيات انتقالية للقاعدة الإجتهادية حتى يتمكن الشخص من ملائمة تصرفاته وفقها.

كذلك نجد أن القضاء المقارن اعتمد تقنيات متنوعة للتخفيف من حدة تحول الإجتهاد القضائي و فجائيته، ففي إنجلترا على سبيل المثال توجد تقنية overruling وتقنية obiter dictum، أما في فرنسا أبدت محكمة النقض انشغالا بالتحولات العديدة لاجتهادها وأحدثت فريق عمل للتفكير في إمكانية سن قانون انتقالي لتحولات الإجتهاد القضائي في خلق القاعدة القانونية، إلا أنه لم يوصي بسنه، مالم يتم الاعتراف رسميا بدور الإجتهاد القضائي في خلق القاعدة القانونية، لكن بالمقابل أوصى بأن تعمد التشكيلات القضائية الموسعة بمحكمة النقض إلى إقرار مبادئ بهذا الشأن، وهذا ما أكدته محكمة النقض الفرنسية بتفعيلها بمقتضى قرارها الذي جاء فيه” يمكن تقييد الأثر الرجعي للقاعدة الاجتهادية، إذا كان من شأنه حرمان الشخص من الحق في محاكمة عادلة، طبقا لمدلول الفصل 6 من الاتفاقية الأوربية لحماية حقوق الإنسان والحريات الأساسية، ويمكن القول هنا أن تقييد الأثر الرجعي للاجتهاد القضائي الجديد، لم يأتي بمناسبة تطبيق قانون وطني، وإنما أتى احتكاما لقانون دولي مما يبين محدوديته.

وعلى المستوى الوطني أحدث المجلس الأعلى سنة 2010 هيئة لليقظة القانونية تحت تسمية “مرصد الاجتهاد القضائي” انكبت في بداية عملها على معالجة ظاهرة تضارب الاجتهاد القضائي عن طريق التنسيق والتواصل بين الهيئات القضائية المتعددة داخله و التي بلغ عددها 27، ويعول عليه مستقبلا لرصد ودراسة باقي أوضاع الإجتهاد القضائي و تأثيره على المستويين القانوني و الاجتماعي.

ونأمل بمثل هذا النوع من التوجهات الجديدة والضوابط المسطرية، وغيرها من الضوابط الموضوعية التي يمكن لها التخفيف من الآثار السلبية لتحولات الاجتهاد القضائي، أن تضمن بشكل فعال حماية حقوق الأشخاص وممارستهم لها بشكل سليم، وتحقيق أهداف الأمن القضائي، كضمانة لتشجيع الإستثمار والمبادرة الفردية والجماعية، ومنح الثقة في مناخ الأعمال ببلادنا على الصعيد الدولي.
إعداد:المحكم الدولي والباحث في الشأن القانوني ذ.“العمري المفضل” 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق