مستجدات مباريات التوظيف والمباريات المرتقبة في الشهور الاخيرة من 2023 وبداية 2024      جديد الماستر 2023 (تحديث 18/10/2023)      جديد سلك الدكتوراه 2023 (اعلان نتائج الانتقاء كليات الاداب والعلوم- مواعيد اجراء الاختبارات الشفوية)      الاخبار القانونية في دقيقة...!! (13/10/2023)      العدالة الرقمية وعدم هدر الزمن القضائى

خصوصية الإثبات بالقرائن في القانون الجمركي المغربي

خصوصية الإثبات بالقرائن في القانون الجمركي المغربي


لا مراء في أن التشريع الجمركي يضطلع بدور بالغ الأثر في إنعاش اقتصاد البلاد، ليس فقط لأنه يحقق للدولة موارد مالية و إنما أيضا لأنه السياج الذي تؤمن الدولة بواسطته فاعلية سياستها الاقتصادية و الاجتماعية.

و قد واكب ذلك تأسيس تشريع جمركي و تقنينه في مدونة الجمارك و الضرائب غير المباشرة التي تضمنت مقتضيات استثنائية أبرزت خصوصيات القانون الجمركي عن القواعد العامة[1].
و يشكل إثبات المنازعات الجمركية أحد أهم هذه الخصوصيات، فبالرغم من خضوع الإثبات الجمركي لنفس القواعد الإجرائية  المعمول بها في مجال التحقيق و المحاكمة و التي تكفل بتحديدها قانون المسطرة الجنائية. إلا أنه يخضع لمبادئ خاصة تميزه عن الإثبات الجنائي.

و لعل من أهم هذه المبادئ على الإطلاق، قلب عبئ الإثبات من المدعي إلى المدعي عليه، أي من عاتق النيابة العامة و إدارة الجمارك إلى عاتق المتهم. و بالتالي هدم القاعدة العامة المتمثلة في " قرينة البراءة ".

و هذا راجع حقيقة إلى عدة أسباب و مبررات، من جملتها غزارة القرائن القانونية المضمنة في قانون الجمارك كقرائن لا يكلف الخضم الذي تقررت لمصلحته بإثبات الأمر المدعى به[2]. و هي قرائن وضعها المشرع لاعتبارات عديدة، منها استقرار المعاملات و حماية الصالح العام[3].

و لهذا فقد اهتم بها بشكل ملفت للنظر، و افرد لها أحكاما خاصة و مستقلة تميزها عن باقي وسائل الإثبات الأخرى المعتمدة في المادة الجمركية، كيف لا و هي تصلح لأن تكون دليلا قائما بذاته يغني عن سواها من الأدلة الأخرى[4].

فما هي هذه القرائن و ما هي خصوصياتها في الميدان الجمركي ؟ 

إجابة عن هذه الإشكالية، قسمت الموضوع إلى محورين، أتناول في الأول القرائن المادية، بينما أخصص الثاني للقرائن المعنوية.

المبحث الأول : القرائن المادية في الجريمة الجمركية.

من أهم مميزات الركن المادي للجريمة الجمركية هيمنة القرائن القانونية، و هي كما نعلم قرائن يتولى القانون تحديدها لتكون علامة لوقائع أخرى مجهولة[5].

و قد نتج عن اعتماد المشرع على هذه القرائن كوسيلة أساسية لإثبات الركن المادي للجريمة الجمركية، إحداث خلخلة في القواعد العامة للإثبات المسطرة بموجب قانون المسطرة الجنائية، خاصة فيما يتعلق بعبئ الإثبات، من حيث أن الركن المادي في المخالفة أو الجنحة الجمركية ينهض قرينة قاطعة في الإثبات، مما يستوجب على المتهم إثبات عكسه، خلافا للقواعد العامة.

و هذا الركن المادي يأخذ طابعا سلوكيا، يتمثل في فعل " التهريب " (المطلب الأول)، و يأخذ أيضا طابعا مكانيا يتمثل في النطاق الجمركي (المطلب الثاني).

المطلب الأول : قرينة السلوك المادي و دورها في إثبات الجريمة الجمركية.

تتمثل قرينة السلوك المادي في قرينة التهريب أساسا. و هذا التهريب إما أن يتم بمناسبة نقل غير قانوني للبضائع (الفقرة الأولى) أو بمناسبة حيازة غير قانونية لهاته البضائع (الفقرة الثانية). 

الفقرة الأولى : قرينة التهريب بفعل النقل غير القانوني للبضائع.

نظم المشرع الجمركي النقل القانوني للبضائع نظرا لأهميته في ميدان الإثبات، حيث فرض على الناقل مجموعة من الالتزامات التي ينبغي عليه التقيد بها، و وضع قرينة قانونية يفترض بموجبها أن المعني بالأمر ارتكب جريمة جمركية في حال عدم احترام هذه الالتزامات[6].

و قد حدد المشرع هذه القرينة في مجموعة من الصور (أولا) كما رتب عليها عدة آثار (ثانيا).

أولا : صور قرينة التهريب بفعل النقل غير القانوني للبضائع.

يتخذ فعل التهريب مجموعة من الصور و الأشكال، فهناك التهريب الضريبي و التهريب غير الضريبي، و هناك تهريب يرتبط بالنقل داخل النطاق الجمركي.

أ- التهريب الضريبي : و معناه استيراد بضائع معينة إلى التراب الوطني للدولة (التراب المغربي) أو تصديرها دون أداء الضرائب المستحقة، مما يتسبب بالضرر للمصالح الاقتصادية و المالية للدولة، و يضعف من ميزانيتها ، على اعتبار أن المكوس أو الرسوم الواجبة على هذه البضائع تشكل موردا أساسيا و مهما لخزينة الدولة.

ب- التهريب غير الضريبي : و يتمثل في إدخال بضائع ممنوعة الاستيراد إلى إقليم الدولة، أو إخراج بضائع محظورة التصدير من هذا الإقليم، على نحو يخرق الحظر القانوني الذي يفرضه المشرع الجمركي في إطار حركة نقل البضائع عبر الحدود.

         إذن فأي تهريب للبضائع، سواء كان تهريبا ضريبيا أو غير ضريبي يشكل خرقا للقانون الجمركي، و بالتالي قرينة مادية لإثبات المخالفة الجمركية الحاصلة.

ج- التهريب المرتبط بالنقل داخل النطاق الجمركي : و هو تهريب يتحقق في حال إخلال الناقل أو من يمثله بالقيود و الالتزامات التي فرضها المشرع على عملية نقل البضائع التي تتم داخل النطاق الجمركي، أي بين الخط الحدودي و إدارة الجمارك.

و من ثم فإن أي إخلال بهذه الضوابط و الالتزامات يعتبر قرينة مادية على ارتكاب مخالفة جمركية. و من أهم هذه الالتزامات المفروضة على الناقل :

إلزامية مرور البضاعة عبر مكتب جمركي، أي أن البضاعة يجب ألا تمر أو تفرغ إلا في ميناء أو مطار أو مركز حدودي يوجد فيه مكتب جمركي، فإن لم تمر أو تفرغ البضاعة على هذا النحو، اعتبر ذلك قرينة على ارتكاب جريمة جمركية، تكيف جنحة أو مخالفة حسب الأحوال، طبقا للفصول 25 و 58 و 280 و 281 و 282 من مدونة الجمارك و الضرائب غير المباشرة.

و إلى جانب هذا الالتزام، قيد المشرع الجمركي الناقل بالتزام آخر يتمثل في تقييد البضاعة في السجل التجاري (إذا كانت البضاعة محمولة على متن الطائرة أو السفينة) أو في ورقة الطريق (إذا كانت محمولة على متن الشاحنة).

كذلك نسجل في هذا الإطار التزاما آخر يتجلى في وجوب توفر الناقل على رخصة النقل، مع استيفاء الرخصة المحصل عليها لكافة البيانات الإلزامية التي اشترطها المشرع فيها، من وصف للبضاعة (كميته، نوعيتها، قيمتها...).

إشارة إلى مكان رفعها أو وجهتها، و تاريخ نقلها و مدته... الخ.

و بالتالي، إذا ضبطت البضاعة، و تبين عدم احترام ناقلها لهذه الالتزامات المشار إليها، اعتبرت بضاعة مهربة، و بالتالي قرينة على ارتكاب جريمة جمركية، على اعتبار أن احد مكونات الركن المادي لهذه الجريمة (التهريب) قد تحقق.


ثانيا : آثار قرينة التهريب بفعل النقل غير القانوني للبضائع.

لما كانت قرينة التهريب الجمركي قرينة قاطعة على ارتكاب المخالفة الجمركية، فإن هذا اقتضى بالتبع عدم قدرة المتهم على مواجهة هذه القرينة إلا بإثبات السبب الأجنبي، عكس إدارة الجمارك التي أعفاها المشرع الجمركي من عبئ الإثبات[7].

على هذا الأساس سوف ندرس آثار هذه القرينة بالنسبة للمتهم أولا، ثم آثارها بالنسبة لإدارة الجمارك ثانيا.

أ- آثارها على المتهم : إذا ضبط المتهم في حالة نقل غير قانوني لبضاعة ما، اعتبر مهربا. و مما يترتب على ذلك عدم إمكانية إثبات برائته عن طريق تقديم الدليل العكسي بإثبات أن البضاعة قد عبرت الحدود بطريقة قانونية. لماذا ؟ لأن هذه القرينة - أي قرينة التهريب بفعل النقل - إنما هي قرينة تتعلق بفعل " النقل " في حد ذاته. و بالتالي لا يمكن أن يدفع بالعكس طالما أن البضاعة قد ضبطت بحوزته داخل النطاق الجمركي بشكل يخالف قواعد نقل البضاعة المسطرة قانونا. بل الأدهى من ذلك انه لا يمكن إثبات حسن نيته من هذه القرينة حتى و لو كان ذلك بسبب خطأ أو غلط من إدارة الجمارك[8]. و إن كان المشرع قد أعطى للمتهم في المقابل حق دفع هذه القرينة عن طريق إثبات السبب الأجنبي، خاصة حالة القوة القاهرة.

لكن الإشكال الذي يثور في هذا الإطار يتعلق بعدم حسم المشرع المغربي في حجية القوة القاهرة كسبب من أسباب دفع المتهم للمسؤولية الثابتة في حقه. و بالتالي يبقى المتهم مرة أخرى محاصرا من لدن إدارة الجمارك و القضاء دون أن يكون بإمكانه إثبات العكس.

ب- آثارها على إدارة الجمارك : مما يترتب أيضا على قرينة التهريب بفعل النقل غير القانوني للبضائع أن إدارة الجمارك يعفى من إثبات أن البضاعة مهربة. ذلك انه بمجرد ضبط المتهم في حالة نقل لهاته البضائع، يفترض القانون واقعة التهريب، أي يفترض أن البضاعة قد عبرت  أو كانت ستعبر الحدود بطريقة غير قانونية، و بالتالي لا تلتزم إدارة الجمارك بإثبات ذلك، اعتبارا لكونها هي المستفيدة من القرينة التي تعفيها من إثبات الركن المادي للجريمة الجمركية. و هذا ما أكده العمل القضائي، خصوصا القضاء الفرنسي، في العديد من القرارات، لاسيما القرار الصادر عن محكمة النقض الفرنسية في 26/02/1948م.



الفقرة الثانية : قرينة التهريب بفعل الحيازة غير القانونية للبضائع.

إلى جانب قرينة النقل غير القانوني للبضائع، كقرينة حركية، وضع المشرع المغربي قرينة أخرى تتسم بنوع من الشمولية في يد إدارة الجمارك، و يتعلق الأمر بقرينة الحيازة أو قرينة التهريب بفعل الحيازة غير المشروعة للبضائع، و المنصوص عليها في الفصول 181 و 279 مكرر و 279 مكرر مرتين، من مدونة الجمارك والضرائب غير المباشرة. و المقصود بهذه القرينة، أن يوجد الشيء محل الغش بين يدي الشخص الحائز (المهرب) عند ضبطه من لدن عون إدارة الجمارك.

و نظرا لأهمية هذه القرينة في مادة الإثبات الجمركي، فسوف نعمل على معالجتها في نقطتين، نتناول في الأولى صورها (أولا) و في الثانية حجيتها القانونية (ثانيا).



أولا : صور قرينة التهريب بفعل الحيازة فير القانونية للبضائع.

لقرينة التهريب بفعل الحيازة غير القانونية للبضائع، صورتان :

أ- قرينة البضائع الخاضعة للرسوم الجمركية عند الاستيراد : و قد اعتمد المشرع الجمركي على هذه القرينة لتوسيع مجال ضبط و ملاحقة هذه البضائع سواء داخل النطاق الجمركي أو داخل الإقليم الجمركي[9]، و هي بضائع يتضح من خلال تحليل طبيعتها أن المشرع يعتمد في تحديد قرينة التهريب الجمركي على الميدان الضريبي الذي يهدف في نطاق السياسة الجمركية إلى حماية المنتجات  المحلية من منافسة المنتجات الأجنبية عن طريق إخضاع هذه الأخيرة لضرائب جمركية عالية (الفصل 3 من مدونة الجمارك و الضرائب غير المباشرة).و بالتالي كلما أظهرت أعمال المراقبة عدم احترام البضائع المستوردة للنسب الضريبية المفروضة عليها قانونا، اعتبر ذلك قرينة على ارتكاب مخالفة جمركية، على اعتبار أن الأمر يتعلق بحيازة بضائع مهربة.

ب- قرينة البضائع المحظورة (المخدرات) : نص المشرع على هذه القرينة في الفصلين 279 مكرر و 279 مكرر مرتين من م.ج.ض.غ.م ، و ذلك لحسم النقاش الفقهي و القضائي الذي أثير حول مدى أحقية إدارة الجمارك الانتصاب كطرف مدني في القضايا المرتبطة بالمخدرات، حيث حسمت المدونة الجديدة في هذا النقاش بأن أدخلت جرائم المخدرات ضمن خانة الدرجة الأولى من الجنح الجمركية. و ما جعل من تدخل إدارة الجمارك في قضايا المخدرات ذو أساس تشريعي واضح[10].

على العموم، تعتبر حيازة المخدرات أحد المظاهر المكونة للركن المادي للجريمة الجمركية، و بالتالي قرينة على ارتكابها. على اعتبار أن حيازة المخدر واقعة مادية لا تخضع لشروط قانونية أو لشكليات معينة، مادام المخدر قد دخل أو خرج من إقليم الدولة. فالعبرة هنا بالحيازة وحدها دون اعتبار لأي معيار آخر.

         لكن السؤال المطروح هنا هو هل حيازة المخدرات، أو حيازة البضائع بشكل عام، قرينة قاطعة لا تقبل إثبات العكس ؟

         هذا ما سنلتمس له الجواب في النقطة الموالية.



ثانيا : الحجية القانونية لقرينة التهريب بفعل الحيازة غير القانونية للبضائع.

في هذا الخصوص نشير إلى أنه قبل التعديلات التي أدخلت على مدونة الجمارك، لاسيما التعديل الأخير لـ : 5 يونيو 2000، كانت قرينة الحيازة غير القانونية للبضائع تتسم بالحجية القاطعة. حيث كانت المخالفة أو الجنحة الجمركية تقوم في حق الحائز وفقا للفصل 181 من م.ج.ض.غ.م ، بمجرد الحيازة المادية للبضاعة. كما كانت تقوم في حق أي شخص قام ببيع أو تفويت هذه البضاعة و لم يتمكن من الإدلاء لعون الجمارك بما يثبت حصول البيع أو التفويت. بمعنى أن المسؤول الجنائية للحائز كانت تقوم بمجرد اكتشاف بضائع في وضعية غير قانونية سواء بحوزته أو بالأماكن التي يعتبر مسؤولا عنها[11]، دون حاجة لإثبات ذلك من قبل إدارة الجمارك أو النيابة العامة.

و قد نتج عن هذه الحجية القاطعة إشكالية " فورية الإثبات " ، و التي أدين بموجبها العديد من حائزي البضائع بمجرد عجزهم عن الإدلاء بالمستندات الخاصة بها بشكل فوري، و هو الأمر الذي كان يشكل حقيقة مساسا خطيرا و انتهاكا صارخا لحقوق الدفاع التي تقتضي تمكين المتهم من الإدلاء بما يثبت براءته من المنسوب إليه بكل حرية.

و هذا ما تنبه له المشرع في تعديل 5 يونيو 2000 بان أعطى لحائزي البضائع أجل 48 ساعة لتقديم الإثبات المطلوب و الذي يدحض قرينة الحيازة. و من تم أصبحت قرينة الحيازة غير القانونية للبضائع قرينة بسيطة يحق بموجبها للمتهم الإدلاء بما يبرر قانونية البضاعة المحيزة.



المطلب الثاني : قرينة العنصر المكاني و دوره في إثبات الجريمة الجمركية.

حينما نتحدث عن القرائن المادية المعتمدة في إثبات الجريمة الجمركية، فإن حديثنا لا ينبغي أن يقتصر فقط على قرينة السلوك المادي، أي على النقل و الحيازة. بل يجب أن يتجاوز ذلك إلى قرينة أخرى تتمثل في العنصر المكاني أو ما يصطلح عليه بالنطاق الجمركي، و الذي يحظى بأهمية خاصة في مجال إثبات المخالفات و الجنح الجمركية. و هذا ما سيتضح حينما سوف نعالج مفهوم النطاق الجمركي (الفقرة الأولى) و حجيته القانونية في الإثبات (الفقرة الثانية).



الفقرة الأولى : مــفهوم النطاق الجمركي.

النطاق الجمركي هو ذلك الحيز من الإقليم الجمركي الذي يخضع للرقابة الخاصة و الصارمة التي تباشرها إدارة الجمارك و الضرائب غير المباشرة ، بهدف ضمان الحماية اللازمة لحدود الدولة و مجابهة الجرائم المرتبكة في إقليمها، و كذا تحصيل الحقوق و الرسوم الجمركية. و ذلك في إطار الدور الحمائي و الجبائي الذي تضطلع به هذه الإدارة.

و بالرجوع إلى الفصل 25 من م.ج.ض.غ.م ، يتضح أن المجال الجمركي يشمل منطقتين : فهو من ناحية يشمل منطقة بحرية، و من ناحية أخرى يشمل منطقة برية.

فالمنطقة البحرية تضم المياه الإقليمية المغربية و كذا المنطقة المتاخمة (أي الملاصقة للمياه الإقليمية).

أما المنطقة البرية، فتمتد على الحدود البحرية فيما بين الساحل و خط مرسوم في الداخل على بعد 20 كلم من شاطئ البحري. كما تمتد على الحدود البرية فيما بين حد التراب الجمركي و خط مرسوم في الداخل على بعد 20 كلم.

         و يدخل في إطار الدائرة البرية، بطبيعة الحال، الطرق بما في ذلك الطرق السيارة و السكك الحديدية و مجاري المياه التي تحدها، بالإضافة إلى مجموع أجزاء كل مكان آهل يمر به خط حدود الدائرة المذكورة[12].

         و يرى بعض الفقه أن تحديد المشرع للنطاق الجمركي الذي تمارس فيه إدارة الجمارك صلاحيتها و سلطاتها، يقتضي وجوب مد أعوانها بالإمكانيات المادية و البشرية اللازمة، حتى يتسنى لهم مراقبة الحدود الجمركية بالشكل المطلوب.

إذن بعد أن تعرفنا على مفهوم النطاق الجمركي، نعرج على بيان حجيته، و ذلك في الفقرة الثانية.



الفقرة الثانية : حجية النطاق الجمركي في الإثبات.

تظهر أهمية المكان في الإثبات الجمركي من خلال اعتبار كل عملية نقل أو حيازة للبضائع داخل النطاق الجمركي - المشار إليه سابق - دون احترام الإجراءات القانونية، قرينة قانونية على ارتكاب المتهم جريمة التهرب الجمركي[13]. و هي قرينة تكفي الجمارك و الضرائب غير المباشرة لإثبات الجريمة الجمركية (التهريب) أمام القضاء، دونما حاجة لإثبات عناصر الجريمة بأية وسائل إثبات أخرى.

         لكن السؤال الذي يجب طرحه في هذا السياق، يتعلق بمدى حجية هذه القرينة في الإثبات ؟ بمعنى هل هي قرينة قاطعة لا تقبل إثبات العكس، أم أنها لا تعدو أن تكون قرينة بسيطة يمكن دحضها بوسائل إثبات أخرى ؟

         إجابة عن هذا السؤال نشير إلى أنه بمقتضى التعديلات التي أدخلها المشرع على القانون الجمركي، فقد اعتبر هذه القرينة قرينة بسيطة يمكن دحضها عن طريق إدلاء الظنين بما يفيد براءته من المنسوب إليه.

         و الدليل على هذا أنه حينما تكلم في الفصل 282 من م.ج.ض.غ.م ، عن تهريب البضائع في النطاق الجمركي الخاضع لرقابة إدارة الجمارك، أحال على الفصل 181 من نفس المدونة، و الذي يسمح للظنين بالإدلاء داخل أجل 48 ساعة بما يفيد عدم حصول التهريب، و أن البضاعة المزعوم أنها مهربة إنما هي بضاعة تتوفر على المستندات التي تثبت شرعيتها أو قانونيتها.

         أما بالنسبة لموقف القضاء من هذا الإشكال، فإننا نشير إلى موقف القضاء الفرنسي الذي اعتبرها قرينة قاطعة لا تبطل إلا بإثبات حالة القوة القاهرة. و ذلك حينما قضى بقيام هذه القرينة بمجرد عدم الإدلاء بالمستندات الخاصة بالبضاعة عند طلبها من لدن العون الجمركي لأول وهلة.

         خلافا للقضاء المغربي الذي ساير توجه المشرع المغربي و اعتبرها قرينة بسيطة[14].

         إذن هكذا يتضح أن القرائن المرتبطة بالركن المادي للجريمة الجمركية هي قرائن تتعلق أساس بالسلوك المادي و بمكان ارتكاب هذه الجريمة، و ضعها المشرع ن أجل ضمان احترام الإجراءات المتعلقة بنقل و حيازة البضائع باعتبارها أساس التجريم في الميدان الجمركي[15].

         فهل تعد هذه القرائن قرائن كافية لتحقق مسؤولية المتهم في الجريمة الجمركية ؟ أم أنه لا محيد عن القرائن المتصلة بالركن المعنوي ؟

         هذا ما سنتحرى له الإجابة على ضوء المبحث الثاني.



المبحث الثاني : القرائن المعنوية في الجريمة الجمركية.

من المبادئ الراسخة في القانون الجنائي أنه يترتب تلقائيا عن ارتكاب فعل يوصف جريمة، حق المجتمع في توقيع العقاب على مرتكبيه كنتيجة لعدم توافق ذلك السلوك مع الخطاب الذي تحمله القاعدة الجنائية و تدافع عنه[16].

كذلك من المبادئ المتعارف عليها في هذا القانون أنه لا عقاب على مجرد الفعل، و إنما لابد من وجود قصد جنائي يتجه نحو فعل هذا الفعل. و السؤال المطروح هنا هو هل التزم المشرع الجمركي بهذه القاعدة في إطار الجرائم و المخالفات الجمركية ؟

         الواقع أن للجريمة الجمركية خصوصيات معينة، و من أبرز هذه الخصوصيات ما يتعلق بركنها المعنوي و ما يرتبط به من قرائن، حيث أن الجريمة تثبت في حق المتهم بمجرد ارتكاب الفعل الضار، و إن هذا الفعل ينهض قرينة قانونية دالة على وقوع مخالفة أو جنحة جمركية بصرف النظر عن قصد الفاعل - مبدئيا - سواء كان هذا الفاعل فاعلا أصليا (المطلب الأول) أو مشاركا أو مستفيدا (المطلب الثاني).



المطلب الأول : قرينة إسناد الجريمة الجمركية للفاعل الأصلي.

صحيح أن القرائن المرتبطة بالركن المادي (السلوك و المكان) تكفي وحدها لمتابعة المتهم ، و أن إدارة الجمارك لا تكون ملزمة بتقديم الدليل على ارتكاب المخالفة[17]. لكن علينا أن نعلم أن هذه قاعدة عامة ليس إلا، حيث إنها لا تسري إلا في حال " اعتراف " المتهم بارتكابه للأفعال المادية المكونة للجريمة الجمركية (أي النقل و الحيازة غير القانونيين للبضائع) أما في حال ادعاء هذا المتهم بعدم علاقته بهذه الأفعال أو انه لا علم له بها، فإنه في هاته الحالة يثور إشكال عويص يتعلق بإسناد المسؤولية الجنائية له كقرينة معنوية.

         على هذا الأساس، تقتضي طبيعة الدراسة في هذا المقام، تحليل هذه القرينة من خلال بيان مجال تطبيقها (الفقرة الأولى) و تحديد طبيعتها (الفقرة الثانية).



الفقرة الأولى : مجال تطبيق قرينة الإسناد للفاعل الأصلي.

         بالرجوع إلى الفصل 223 من م.ج.ض.غ.م نجده ينص على أن المسؤولية الجنائية عن الجريمة الجمركية مفترضة في حق كل من الأشخاص الموجودة في حوزتهم البضائع المرتكب الغش بشأنها و ناقلوها، و كذا ربابنة السفن و قواد الطائرات فيما يخص الإغفالات و المعلومات غير الصحيحة الملاحظة في بياناتهم.

         و يتضح من خلال استقراء هذا الفصل أن قرينة إسناد الجريمة الجمركية للفاعل الأصلي – المتمثل في الأشخاص المذكورين – يتسع مجال تطبيقها ليشمل حيازة البضائع (أولا) و نقلها (ثانيا).



أولا : قرينة الإسناد في حالة " حيازة " البضائع.

تعد حيازة البضاعة من أهم الوسائل القانونية التي تعتمد عليها إدارة الجمارك في تجاوز الصعوبات المترتبة عن إسناد الجريمة الجمركية للمتهم، لأنه يفترض في الحائز أنه مسؤول جنائيا، دون أن تكون الإدارة الجمركية ملزمة بتقديم الدليل على مساهمته الشخصية في الفعل المخالف للقوانين و التنظيمات الجمركية (تهريب البضاعة مثلا). ذلك أن ضبط البضاعة مع شخص ما و هو يجتاز الحدود عن طريق المكاتب الجمركية، يشكل جنحة تهريب. و يكفي أن تتحقق مادية الفعل لإسناد المخالفة إلى حائزها[18]. كما انه يكفي لاعتبار الشخص حائزا، و بالتالي متهما، أن تبقى البضاعة في حوزته و لو لمدة قصيرة سواء أكان مالكا لها أم لم يكن، و سواء أكانت حيازته مادية أو قانونية[19]. لكن الإشكال الذي يثار في هذا السياق يتمثل في عدم تحديد مدلول " الحائز " بشكل دقيق من طرف المشرع المغربي، حيث استعمل صياغة قانونية تتسم بالتعتيم و الإجمال بقوله : " الأشخاص الموجودة في حوزتهم البضائع ..." ، و دونما تحديد لنطاق هؤلاء الأشخاص، و دونما أي حصر لهم. و هو الأمر الذي طرح و لازال يطرح عمليا جملة من المشاكل القانونية، خصوصا حينما يتعلق الأمر بتحديد الحائز الحقيقي للبضاعة.

         و الذي يزيد من حدة هذا الإشكال، أن القضاء المغربي لم يستطع بدوره إيجاد حلول عملية لهذا " الإطلاق " التشريعي. على خلاف الاجتهاد الفرنسي الذي عمل على إيجاد هذه الحلول و التي نورد بعضا منها كالآتي :

أ- إذا كان المالك هو الذي ينتفع بالأماكن التي عثر فيها على البضائع، فهو الذي يفترض قانونا بأنه الحائز المسؤول عن المستودع، و لا يمكنه دفع المسؤولية عنه إلا بإثبات عدم الانتفاع الشخصي، أو بإثبات تأجيره عن طريق إظهار عقد الإيجار، و إلا أسندت الجريمة له دون أن تلتزم إدارة الجمارك بإثباتها.

ب- و إذا أجرت الأماكن التي وجدت البضاعة فيها، اعتبر المستأجر هو المسؤول، و إذا قام بدوره بتأجير العقار، فعليه أن يثبت هذا التأجير من الباطن بإظهار عقد الإيجار من الباطن.

ج- إذا تعلق الأمر بأصحاب الفنادق و أماكن الإيواء، فإنهم يعتبرون حائزين مسؤولين عن البضائع التي أوتي بها من قبل النازلين عندهم. غير أنه يتعين التمييز هنا بين ما إذا كانت البضاعة قد عثر عليها بالغرفة المستأجرة من قبل الزبون، حيث يكون هذا الأخير هو المسؤول، و ما إذا كان قد عثر عليها في مكان آخر من الفندق، حيث يكون الفندقي هو المسؤول في هذه الحالة[20].



ثانيا : قرينة الإسناد في حالة " نقل " البضائع.

على خلاف النقل البحري و الجوي الذي لا يثير أي إشكالات قانونية بالنظر للتنظيم القانوني المحكم الذي خصصه له المشرع لاعتبارات اقتصادية و تجارية محضة، من حيث انه حدد لربابنة السفن و الطائرات التزامات قانونية واضحة، و اعتبر إخلالهم بها قرينة تسند لهم معها جريمة التهريب.

فإنه حينما يتعلق الأمر بالنقل البري نجده يثير العديد من المشاكل، سواء تعلق الأمر بالنقل الخصوصي أو العمومي.

* فبالنسبة للنقل الخصوصي، نجده يثير إشكالا أساسيا يتمثل في تعدد المتدخلين فيه (مالك البضاعة، و الناقل، و صاحب وسيلة النقل) حيث أن مالك البضاعة لا تكون له في معظم الأحيان أية علاقة بالناقل. كما أن هذا الأخير يعمل بدوره لدى صاحب وسيلة النقل، مما يجعل كل طرف يدفع المسؤولية عنه و يلقيها على الطرف الآخر.

و لتفادي هذا الإشكال، وضع المشرع قاعدة عامة يعتبر بمقتضاها أن المسؤول عن القيادة هو المسؤول جنائيا عن البضائع الموجودة على متن الناقلة، دونما حاجة للبحث عن مالكها الحقيقي.

لكنه جاء في الفقرة الثالثة من الفصل 223 من م.ج.ض.غ.م ، و لطف من هذه القاعدة، حينما سمح للناقل عموما و للناقل الخصوصي بصفة خاصة، إمكانية التحلل من هذه المسؤولية عن طريق إثبات أن البضاعة التي تم ضبطها معه قد أرسلت بحكم إرسالية يظهر أنها مشروعة و قانونية. عندما تسند الجريمة للمرسل و يخلي سبيل الناقل.

* أما بالنسبة للناقل العمومي، فإنه يطرح هو الآخر مشكلة أساسية تتعلق بتحديد مالك البضائع المحجوزة، على اعتبار أن طبيعة هذا النقل تقتضي كثرة الراكبين، إضافة للاعتبارات المتعلقة بمواعيد الإقلاع و الوصول، مما يحد من إمكانية العثور على أصحابها، و بالتالي سيستعصي في كثير من الأحيان متابعة السائق خصوصا إذا أثبت انه أدى بصفة قانونية واجباته المهنية عن طريق إثبات أن البضائع المرتكب الغش فيها قد أخفاها أحد الراكبين في أماكن لا تجري عليها عادة المراقبة العادية من قبله[21].

و هذا ما نلمسه بشكل عملي في العديد من الأحكام و القرارات القضائية، سواء تلك الصادرة عن القضاء المغربي أو الفرنسي. و من ذلك مثلا ما ذهبت إليه محكمة الاستئناف بتطوان في إحدى قراراتها، حينما صرحت ببراءة السائق و مساعديه استنادا لكونهم كانوا يجهلون هوية الشخص صاحب البضاعة المحيزة[22].



الفقرة الثانية : طبيعة قرينة الإسناد للفاعل الأصلي.

الواقع أنه من خلال تأمل العديد من النصوص القانونية المضمنة بمدونة الجمارك و الضرائب غير المباشرة، يمكن التأكيد على أن قرينة إسناد الجريمة الجمركية للفاعل الأصلي تنهض قرينة قاطعة غير قابلة لإثبات العكس. بمعنى أن حائز البضاعة الذي ضبط في حالة غش، لا يستطيع أن يعفى مما وجه إليه بإثباته عدم علمه بالغش الحاصل، بل أن الجريمة تكون ثابتة في حقه بغض النظر عن علمه أو عدم علمه (تلاشي الركن المعنوي لصالح الركن المادي).

         غير أن المشرع و إن كان قد تشدد – مبدئيا – في هذه القرينة، إلا أننا نجد له في بعض الأحيان تدخلات في بعض النصوص، يلطف فيها من هذه القرينة. و من ذلك مثلا ما ذهب إليه الفصل 223 (الفقرة الأولى) من مدونة الجمارك، حينما أعفى الناقل العمومي و مستخدميه من المسؤولية الجنائية في حال ما إذا برهنوا أنهم أدوا بصفة قانونية واجباتهم المهنية، و إن البضائع محل الغش قد أخفاها الغير في أماكن لا تجري عليها عادة مراقبتهم، كما سبق و أن أسلفنا.

         و هو نفس الاتجاه الذي سارت عليه معظم التشريعات، و على رأسها التشريع التونسي و الفرنسي ، و كذلك التشريع الجمركي المصري الذي أورد بموجب مادته 121 استثناء على القاعدة العامة القائمة على أساس افتراض العلم بالجرم. و مفاد هذا الاستثناء أن هذه القاعدة لا محل لها وأن المتهم بريء إذا ما أدلي بالمستندات الدالة على شرعية البضاعة المحيزة.

         و لعل الدافع الأساس الذي جعل هذه التشريعات تنحو منحى هذا التلطيف من قرينة الإسناد للفاعل الأصلي، هو الإشكال الذي ثار حول تعارض هذه القرينة مع قرينة البراءة لأحد أعمدة المحاكمة العادلة، و أن المتهم بريئ  حتى تثبت إدانته.

         لكن على العموم، يبقى هذا التخفيف من قرينة الإسناد، مجرد استثناء لا يصح التوسع فيه و لا القياس عليه. كما أنه يؤكد المبدأ العام القاضي باعتبار هذه القرينة قرينة قاطعة غير قابلة لإثبات النقيض.



المطلب الثاني : قرينة إسناد الجريمة الجمركية للمشارك و المستفيد.

         لم يكتف المشرع بالتشدد في طرق الإثبات بالنسبة للفاعل الأصلي فقط عن طريق وضع قرائن قانونية نفترض فيه ارتكاب السلوك المادي للجريمة الجمركية، و بالتالي إسنادها له بغض النظر عن علمه أو عدم علمه. بل عمل على توسيع هذه القرائن حتى بالنسبة للمشارك (الفقرة الأولى) و المستفيد من الغش (الفقرة الثانية). مما يدل على أن المشرع قد نحى نحو توسيع مفهوم المشاركة و المساهمة في الجريمة الجمركية بالشكل الذي تخضع له في إطار القانون الجنائي، لكن وفق تكييف قانوني ينسجم و خصوصية المادة الجمركية.


الفقرة الأولى : قرينة إسناد الجريمة الجمركية للشريك أو المشارك.

         حسب الفصل 221 من م.ج.ض.غ.م ، فإنه يعتبر مشاركا أو متواطئا في ارتكاب الجريمة الجمركية، الأشخاص الذين قاموا بالتحريض و تقديم المساعدة (أولا)، أو شراء و حيازة البضائع المرتكب الغش بشأنها (ثانيا)، أو بالتستر على تصرفات مرتكبي الغش (ثالثا).



أولا : التحريض و تقديم المساعدة.

         يعتبر كل تحريض مباشر على ارتكاب الغش أو تسهيل ارتكابه بأي وسيلة من الوسائل، من أهم حالات المشاركة في المادة الجمركية[23]. سواء تم هذا التحريض عن طريق تقديم هبة أو وعد، أو عن طريق التهديد أو التحايل أو التدليس.

         لكن إذا كان المشرع لم يحدد الوسائل الواجب اعتبارها تحريضا بل ترك سلطة التقدير للقضاء و الإدارة، فإنه اشترط بالمقابل وجوب أن يكون التحريض مباشرا. أي يهدف إلى تشجيع الفاعل الأصلي على ارتكاب الجنحة أو المخالفة الجمركية، بأفعال أو عبارات واضحة (الفقرة الثالثة من الفصل 221 من المدونة).



ثانيا : شراء أو حيازة البضائع المرتكب الغش بشأنها.

         كذلك، يعتبر مشاركا في الجريمة الجمركية بمفهوم الفصل 221 من مدونة الجمارك، كل شخص اشترى أو حاز بضائع متأتية من الغش أو التهريب، حتى و لو لم يوجد أي مؤشر يسمح له بالتعرف على المصدر المغشوش للبضاعة.

و علة هذا التشديد ترجع إلى رغبة المشرع المغربي في سد الطريق على المهربين و مرتكبي الغش و حرمانهم من وسائل ترويج و تصريف البضائع محل الغش أو التهريب، لذلك فقد اعتبر كل من المشتري و الحائز بمثابة شريك متواطئ في ارتكاب المخالفة و الجنحة الجمركية.

غير أن الإدانة في هذه الحالة متوقفة على ضرورة توافر عنصر القصد الجنائي أو النية الإجرامية. و هذه نقطة التقاء بين القانون الجمركي و القانون الجنائي.

ثالثا : التستر على تصرفات مرتكبي الغش.

         هذه الحالة تشكل هي الأخرى عملا من أعمال المشاركة اللاحقة على ارتكاب الفعل المشكل للجريمة الجمركية. و هي تعني مساعدة الفاعلين الأصليين للتهرب أو اجتناب الجزاء بأية وسيلة، و ذلك بالقيام بأعمال ايجابية كمساعدة مرتكبي أعمال التهريب أو الغش الجمركي على التهرب من قبضة العدالة أو الإدارة، أو إخفاء المهربين، أو القيام بأعمال ترمي إلى الحيلولة دون حجز البضائع المرتكب الغش بشأنها[24]، أو تبديد المستندات و الوثائق المعتمدة لإثبات الجنحة أو المخالفة الجمركية في حق مرتكب الغش، أو القيام بتضليل أعوان إدارة الجمارك عن طريق تقديم بيانات خاطئة للتستر على مرتكب الجرم أو محاولة جعله في مأمن من العقاب.

         و على غرار الحالات السابقة، لا يمكن مؤاخذة المشارك في هذه الحالة إلا إذا توافر عنصر العلم بالغش من جانبه وقت ارتكاب الفعل.



الفقرة الثانية : قرينة إسناد الجريمة الجمركية للمستفيد.

قليلا ما يكون مرتكب الفعل الجرمي المتمثل في الغش هو المستفيد الحقيقي منه. بل إن المستفيد الحقيقي أو الفعلي غالبا ما يتمثل في شبكة للتهريب تتخذ شكل (مقاولة) ممولة من طرف أشخاص يعبد عن الفعل المادي للجريمة الجمركية - الغش - .

         و لهذا نجد معظم التشريعات، بما فيها التشريع المغربي، تتبنى بالإضافة إلى نظرية المشاركة، نظرية المستفيد. حيث نص المشرع في الفقرة الأخيرة من الفصل 221 من مدونة الجمارك على أنه : « يعتبر شخصا ذاتيا أو معنويا له مصلحة في الغش : الذين قاموا على علم بتمويل عملية الغش، و مالكوا البضائع المرتكب الغش بشأنها ».

         فهؤلاء الأشخاص هم المستفيد من الغش (أولا). غير ان العقاب لا يطال هؤلاء فقط، بل يطال أيضا المستفيد بشكل غير مباشر، و إن كان النص لم يأت على ذكر هذه الفئة صراحة (ثانيا).



أولا : المستفيد المباشر من الغش.

         بالرجوع إلى الفصل 221 من مدونة ج.ض.غ.م ، يمكن حصر المستفيد من الغش في مقدمي الأموال و مالكي البضاعة المرتكب الغش فيها.

  أ- مقدم الأموال : و تنطبق هذه العبارة على كل من قدم أو زود مرتكبي الغش بالوسائل أو المواد التي تمكنهم من تحويل عمليات التهريب. غير إن مجرد تقديم مبلغ من المال يسهل ارتكاب الجريمة الجمركية من طرف الغير، لا يكفي لقيام نظرية الاستفادة من الغش أو المصلحة في الغش. و إنما لابد من توافر عنصر القصد أو العلم و بروز نية التمويل، بدليل عبارة الفصل 221 : « على علم ». و هو ما يجسد حضور الركن المعنوي في الجريمة الجمركية على الرغم من ضموره في كثير من المناسبات.

  ب- مالك البضائع المرتكب الغش فيها : و يعتبر أن له مصلحة في الغش، و ذلك بمجرد صفته كمالك للبضائع. و بالتالي فإنه لا يمكن تبرئته على أساس أنه لم يساهم في الغش أو كان حسن النية، إذ تكفي صفته القانونية كمالك، لوحدها، لكي يعتبر مستفيدا من الغش، دون أن تلتزم إدارة الجمارك بإثبات أنه فعلا مستفيد[25]، و دون أن تلتزم أيضا بإثبات سوء نيته على اعتبار أن المشرع لم يشترط في إطار هذه الحالة عنصر " العلم "، كما فعل في الحالة السابقة. مما يجسد مرة أخرى تلاشي الركن المعنوي في هذا النوع من الجرائم.

         غير أن بإمكان المتهم و الحالة هذه دفع المسؤولية عنه، بإثبات حالة القوة القاهرة. كأن يثبت مثلا أن البضاعة محل الغش قد سرقت منه رغم كل التدابير التحوطية التي اتخذها لتفادي ذلك.



ثانيا : المستفيد غير المباشر من الغش.

         كثير هي الحالات التي لا يكون فيها المتهم لا فاعلا أصليا و لا مستفيدا بشكل رئيسي من الغش، و إنما مجرد طرف معني بشكل ما في عملية الغش، و ذلك من خلال مساهمته بأية طريقة في مجموعة أفعال مرتكبة من عدة أفراد تصرفوا بشكل جماعي وفقا لمخطط غش أعد لضمان النتيجة المستهدفة من طرفهم، فيسمى هذا المساهم في هذه الحالة بالمستفيد غير المباشر من الغش. و هي فئة لم يتناولها المشرع بصفة صريحة في مدونة الجمارك و الضرائب غير المباشرة، خلافا للمشرع الفرنسي الذي فصل الحديث عن هذه الفئة من خلال الفقرة الثانية من المادة 399 من قانون الجمارك الفرنسي. بل أشار إليها ضمنيا، حينما استعمل عبارة " المصلحة في الغش "، و هي عبارة فضفاضة تستعمل المستفيد المباشر و المستفيد غير المباشر. بالرغم من التحديد الذي أورده المشرع في الفقرة الأخيرة من الفصل 221 من مدونة الجمارك (مقدمي الأموال و مالكوا البضائع) ذلك أن هذا التحديد إنما هو تحديد وارد على سبيل المثال لا الحصر، مما يعني إمكانية إدخال المستفيد غير المباشر في حكم هذه الفقرة.

         و التساؤل الذي يفرض نفسه هنا هو هل يشترط في هذه الحالة ثبوت النية الإجرامية للمستفيد بشكل غير مباشر ؟

         في هذا الإطار سجلنا سكوت المشرع المغربي و معه القضاء، خلافا للمشرع الفرنسي الذي منع بصريح العبارة في المادة 369 من القانون الجمركي القضاة من تبرئة المتهم على أساس قصده أو نيته، بمعنى أن المشرع الفرنسي لم يعتد بعنصر القصد الجنائي.

         و هو نفس التوجه الذي سايرته محكمة النقض الفرنسية في قرارها المؤرخ في 26/06/1952.

         لكن من الناحية الواقعية، نجد أن إدارة الجمارك ملزمة حقيقة بإثبات أن المتهم ساهم في مجموعة أفعال مرتكبة من أفراد تصرفوا باتفاق بينهم، وفقا لمخطط غش أعد لضمان النتيجة المتبعة أو المستهدفة منهم، و كل هذه العبارات تدل على أن المتهم كان على علم بما يقوم به، و بالتالي يتوجب على إدارة الجمارك أن تثبت كل هذا[26].

خاتمة :

         خلافا للمبدأ المشهور الذي يقضي بأن الأصل هو براءة المتهم[27] كمبدأ راسخ في إطار القانون الجنائي، فإن القانون الجمركي ينبني على قرينة الاتهام.

         ذلك أن الفاعل في إطار الجريمة الجمركية، محاصر بقرائن قانونية مادية و معنوية قاطعة تساهم بشكل كبير في تسهيل عملية الإثبات بالنسبة للنيابة العامة - كجهة قضائية -، و الإدارة الجمركية - كجهة إدارية -. و هو ما أدى إلى التضييق من حقوق الدفاع، على الرغم من حزمة التعديلات التي أدخلت على التشريع الجمركي ببلادنا، تجريما وعقابا.


المراجع:
[1]  محمد بزطامي، خصوصيات الإثبات في القانون الجنائي الجمركي، مقال منشور بجريدة " القانونية " الإلكترونية، عدد 5.

[2]  صالح بن غانم السدلان، القرائن و دورها في الإثبات في الشريعة الإسلامية، بلنسية، الرياض، الطبعة الثانية، 1998م – 1418هـ ، ص : 30.

[3]  شكر محمود داود السليم، القرينة القانونية و دورها في التفريق القضائي، مجلة الرافدين للحقوق، العدد 42، 2009. ص : 47.

[4] محمد طيب عمور، الإثبات الجزائي بالقرائن القضائية بين الشريعة و القانون، مجلة الأكاديمية للدراسات الاجتماعية و الإنسانية، العدد 9، 2013، ص : 80

[5]  عبد السلام بنحدو، الوجيز في شرح المسطرة الجنائية المغربية (مع آخر التعديلات)، مطبعة اسبارطيل، طنجة، طبعة 2013، ص : 198.

[6]  لعناية القادري، خصوصية الإثبات في القانون الجنائي الجمركي، رسالة لنيل دبلوم الماستر في القانون الخاص، جامعة عبد المالك السعدي، كلية الحقوق بطنجة، 2008 – 2009ـ ص : 16 و 17.

[7]  محمد بوخريسا، إشكالية الإثبات في المخالفات الجمركية، رسالة لنيل دبلوم الماستر في القانون الخاص، جامعة عبد المالك السعدي، كلية الحقوق بطنجة، 2009 – 2010، ص : 91.

[8]  لعناية القادري، مرجع سابق، ص : 22.

[9]  لعناية القادري، مرجع سابق، ص : 27

[10]  محمد بوخريسا، مرجع سابق، ص : 122.

[11]  كريمة المحمدي العلوي، المنازعات الجمركية ما بين القواعد الجزائية العامة و مدونة الجمارك، رسالة لنيل دبلوم الماستر في القانون الخاص، جامعة عبد المالك السعدي، كلية الحقوق بطنجة، 2011 – 2012، ص : 53.

[12]  المادة 25 من م. الجمارك و الضرائب غير المباشرة الصادرة بتاريخ 05/06/2000.

[13]  لعناية القادري، مرجع سابق، ص : 36

[14]  انظر في ذلك القرار عدد 4/905 الصادر عن محكمة النقض (المجلس الأعلى سابقا) في 26/07/2000.

[15]  لعناية القادري، مرجع سابق، ص : 41

[16]  عادل العلاوي، تحريك الدعوى العمومية في ضوء المحاضر الجمركية، رسالة لنيل دبلوم الماستر في المهن القضائية و القانونية، جامعة محمد الخامس – السويسي، كلية الحقوق، الرباط، 2010 – 2011، ص : 10.

[17]  إبراهيم المقري، خصوصية الجريمة الجمركية في التشريع المغربي، رسالة لنيل دبلوم الماستر في القانون الجنائي و العلوم الجنائية، جامعة محمد الأول، كلية الحقوق، وجدة، 2011 – 2012. ص : 14.

[18]  محمد بوخريسا، مرجع سابق، ص : 128.

[19]  اعتد القضاء المغربي بقرينة الحيازة القانونية و ساوى بينها و بين الحيازة المادية في مجال الإثبات الجمركي، في العديد من الأحكام و القرارات القضائية، من ذلك الحكم رقم 82/668 الصادر عن المحكمة الابتدائية بالخميسات بتاريخ 19/07/1982.

[20]  لعناية القادري، مرجع سابق، ص : 46

[21]  لعناية القادري، مرجع سابق، ص : 49

[22]  قرار محكمة الاستئناف بتطوان عدد 83/1415 المؤرخ في 07/11/1983، ملف عدد 83/1104.

[23]  محمد بوخريسا، مرجع سابق، ص : 143

[24]  محمد بوخريسا، مرجع سابق، ص : 146

[25]  لعناية القادري، مرجع سابق، ص : 54

[26]  محمد بوخريسا، مرجع سابق، ص : 151


بقلم ذ أنس الشتيوي




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

قالب تدوينة تصميم بلوجرام © 2014