الدستور الجديد واستقلال السلطة القضائية
يأتي دستور 2011 في ظرفية سياسية خاصة يعيشها المغرب، وفي سياق غير منفصل عن جو الثورات العربية وموجات الاحتجاج من المحيط إلى الخليج، خلافا لما يروّج له البعض عن الاستثناء المغربي في كل شيء، وعلى الصعيد الوطني، وكما هو معلوم،
نادت حركة 20 فبراير بالملكية البرلمانية كشكل للنظام السياسي المقبل، إلا أن الدستور جاء مخيبا لآمالها ورأت بالتالي الحل في استمرار الاحتجاجات إلى أن يتحقق مطلبها السياسي، وتَـوَخيا للموضوعية فقد جاء الدستور بنقاط إيجابية تُحسب له كما أنه كرس مجموعة من سلبيات دستور 1996.
نادت حركة 20 فبراير بالملكية البرلمانية كشكل للنظام السياسي المقبل، إلا أن الدستور جاء مخيبا لآمالها ورأت بالتالي الحل في استمرار الاحتجاجات إلى أن يتحقق مطلبها السياسي، وتَـوَخيا للموضوعية فقد جاء الدستور بنقاط إيجابية تُحسب له كما أنه كرس مجموعة من سلبيات دستور 1996.
المبحث الأول : الدستور المغربي الجديد.. بين الطموحات والآمال
تكمن أهمية الحديث عن الدستور المغربي، من جهة، كونه أول تعديل دستوري يتم في عهد حُكم العاهل المغربي محمد السادس، منذ اعتلائه العرش سنة 1999، وهو التعديل السادس في تاريخ المملكة المغربية، ومن جهة أخرى، يتضمن الدستور الجديد بعض سمات دساتير الدول الديمقراطية، أهمها فرض المزيد من محاسبة المسؤولين، وجعل المؤسسة التشريعية أكثر دينامية، ومنح الجهاز التنفيذي سلطات جوهرية وتقوية سلطات الوزير الأول "رئيس الحكومة"، والذي يتم تعيينه بناء على نتائج اقتراع عام مباشر.
كما تم التغاضي عن بعض المصطلحات والكلمات التي كانت تثير اللبس، فبدلاً من شخص الملك مُقدس "في الدستور القديم"، إلى شخص لا تنتهك حرمته، وللملك واجب التوقير والاحترام، وقد أثارت هذه الكلمة لغطاً كثيراً في الصحافة المغربية، أجاب عنه الملك عبر مستشاره حين اجتمع بقادة الأحزاب قائلاً: "سيدنا - ويعني الملك- يُبلغكم بأنه ملك مواطن والقدسية لله"، كما استبدل اسم الوزير الأول باسم رئيس الحكومة، ومن الحديث عن "القضاء" بصفة عامة، إلى الحديث عن "السلطة القضائية" ومن "المجلس الدستوري" إلى الحديث عن "محكمة دستورية .
وترتكز مكونات الدستور على أن مكونات الهوية المغربية هي العربية - الإسلامية والأمازيغية والصحراوية الحسانية، والغنية بروافدها الإفريقية والأندلسية والعبرية والمتوسطية، ونظام الحكم بالمغرب نظام ملكية دستورية برلمانية ديمقراطية واجتماعية، والإسلام دين الدولة، والدولة تضمن لكل واحد حرية ممارسة شؤونه الدينية، إقرار الأمازيغية كلغة رسمية إلى جانب اللغة العربية، وإحداث مجلس أمنى أعلى برئاسة الملك.
وينص الدستور الجديد على أن الملك يُعين رئيس الحكومة من الحزب السياسي، الذي تصدر انتخابات أعضاء مجلس النواب، ويعين أعضاء الحكومة باقتراح من رئيسها، وأن الحكومة مسؤولة أمام مجلس النواب، وأنها ستتمتع بسلطات أكبر، كما أن أعضاءها مسؤولون جنائياً أمام محاكم المملكة عما يرتكبون من جنايات وجنح أثناء مُمارستهم مهامهم.
وتكرس الوثيقة الدستورية الجديدة، الملكية والمواطنة الضامنة للخيارات الأساسية للأمة، مع التمييز بين صلاحيات الملك بصفته أميراً للمؤمنين وبين صلاحياته بصفته رئيساً للدولة، والارتقاء بالقضاء إلى سلطة مستقلة لتكون في خدمة الحماية الفعلية للحقوق وضمان احترام القوانين، والالتزام بحقوق الإنسان كما هي مُتعارف عليها دولياً مع رفض كافة أشكال التمييز والمُمارسات المهينة لكرامة الإنسان.
وسيكون باستطاعة رئيس الوزراء حل مجلس النواب بعد التشاور مع الملك ورئيس مجلس النواب ورئيس المحكمة الدستورية، ويكرس الدستور دور البرلمان في المُصادقة على القوانين ومُراقبة عمل الحكومة.
وبرزت أهم التعديلات في دستور 2011 في الباب المتعلق بالأحكام العامة الفصل 12 وهو فصل جديد يتعلق بالمعارضة والتي ستمثل في أجهزة البرلمان لتقويتها ومُمارسة دورها الرقابي، وتمت إضافة ثلاثة فصول تتعلق بمغاربة الخارج؛ حيث أصبح من حقهم التصويت والترشح .. إضافة إلى دسترة هيئات الحكامة الجيدة، كما احتفظ الملك بالثالوث "الأمن والجيش والدين" وتم فصل للسلطات وغير ذلك من الحقوق المُتعارف عليها والحريات العامة.
ويرى المحللون السياسيون أن الإصلاحات الجديدة التي تضمنها الدستور كسبت المزيد من المؤيدين وحركت الكثير من مواقع المعارضين والمتحفظين باتجاه التأييد والتفهم والمناصرة، وساهمت في اتساع مساحة الرضا والتأييد وتضييق مساحة المعارضة والاحتجاج وهكذا نجح النظام المغربي في ممارسة سياسة الاحتواء بالإصلاح ذي الخطوات الملموسة...
وفي الوقت الذي يرى فيه الكثيرون بأن هذه الإصلاحات الدستورية بمثابة ثورة سياسية هادئة، وثورة أخرى للملك والشعب، وخطوة في الاتجاه الصحيح، إلا أن هناك فريقاً يرى أن الدستور الجديد لا يختلف عن دستور 1996؛ على اعتبار أن بنية النظام السياسي المغربي لم يطرأ عليها أي تغيير جذري، ولا يزال الملك يحظى بصلاحيات واسعة ويحكم ويسود.
لم تكن المشكلة المغربية يوما قضية قوانين و مؤسسات، بقدر ما كانت على الدوام مشكلة تطبيق القوانين وتفعيل المؤسسات، كمؤسسة حقوق الإنسان والمواطنة و الحريات العامة و التي تحتاج إلى تجسيد فعلي و حقيقي لترجمة روح القانون إلى واقع ملحوظ، حيث لا يُسجن أمثال رشيد نيني الصحفي ولا يُضرب أمثال علي سباه الأستاذ... كما يجب تفعيل دور البرلمان في التمثيل الفعلي للمواطن في نقل همومه و مشاكله و تحسين الأداء الحكومي من خلال السعي إلى حل مشاكل المواطن بشكل إجرائي و ملموس ينعكس على حياته الواقعية إيجابا. إن المواطن البسيط، و لو أنه لا يفهم فصول الدستور، إلا أنه يريد حياة أفضل و مستقبلا أكثر أمانا له و لأبنائه.
المبحث الثاني : إستقلال القضاء في ظل الدستور الجديد
إن استقلال القضاء، كان ولازال وسيظل مجالا خصبا للنقاش الدائر بين الحقوقيين من جهة وأصحاب القرار من جهة أخرى. والحديث عن استقلال القضاء هو حديث في قلب الجدل والكتابات و المحاضرات التي كان موضوعها التشكي من عدم استقلال القضاء في بلادنا.
فهل الدستور 2011 حمل جديدا بخصوص هذه الأشكال أم لا ؟
من المفيد التذكير بكون الخطاب حول استقلال القضاء أو النقاش حوله هو خطاب ونقاش موجه بالأساس إلى الدولة لاتهامها بكونها تستغل القضاء في قضايا سياسية، ولا تترك له الحرية في إصدار أحكامه وفق ما يتبين له.
وما كان يعزز هذا الاتهام هو أن سلطة التعيين وسلطة العزل هي بين يدي الملك الذي يترأس المجلس الأعلى من جهة و بين يدي وزير العدل الذي ينوب في رئاسة المجلس المذكور.
كما أن وزير العدل يعطيه القانون في الفصل 17 من النظام الأساسي للقضاء سلطة تتبع و تفتيش ثروة القاضي و زوجته وأبنائه القاصرين بل وله الحق في تكليف مفتشين في تقدير تلك الثروة وهذا ما اعتبر , من قبل عدة آراء انه الوسيلة القاتلة التي تملكها الدولة للتحكم في القضاء.
لكن هل دستور 2011 أحدث تحولا في هذه القضايا أم أنه تركها كما هي؟
إن دستور 2011 لم يكتف فقط بإزاحة وزير العدل من المجلس الأعلى للسلطة القضائية وإنما خلق مؤسسة جديدة خلافا لتلك المنصوص عليها في الفصل 86 من دستور 1996 في النقطة المتعلقة بمن يمثل جلالة الملك في المجلس.
فإذا كان الفصل 86 ينص على أن وزير العدل ينوب على الملك في المجلس الأعلى، فإن الفصل 115 من دستور 2011 استغنى عن قاعدة النيابة ، وعوضها بقاعدة الانتداب في العلاقة مع رئاسة الملك للمجلس الأعلى للسلطة القضائية .
ومن المعلوم أن القواعد القانونية المنضمة للنيابة هي قواعد لا تسمح للنائب إلا بمجال ضيق للتصرف، بينما الرئيس المنتدب عن الرئيس الدستوري ، فإن مجال تحركه يكون أوسع، وبالتالي يكون مجال مسؤولية رئيس المنتدب أكبر.
ولهذا حذفت كلمة النيابة من صياغة الفصل 115 وحلت مكانها كلمة الرئيس المنتدب علما أن الرئيس المنتدب ليس فقط لا لون حزبي له بل لا يحق له أن يكون له ذلك بمقتضى الفصل 111 من الدستور.
كما أن سلطة مراقبة ثروة القاضي الذي كانت من صلاحيات وزير العدل، انتقلت إلى مؤسسة دستورية أخرى، وهي المجلس الأعلى للحسابات الذي تنص في الفقرة الأخيرة من الفصل 147 من الدستور أن من مهام ذلك المجلس تتبع التصريح بالممتلكات، بينما لم يجعل الدستور لهذه القاعدة أي استثناء، مما يعني أن التصريح بممتلكات القاضي و زوجته و أولاده القاصرين ستصبح من اختصاص المجلس الأعلى للحسابات مثلهم مثل باقي المسؤولين ، و المنتخبين في الدولة، كما أصبح دستور2011 يلزم المجلس الأعلى ببعث تقرير سنوي عن نشاطه إلى مجلس النواب.
فاستقلال القضاء، إذن، سيأخذ وجها آخر، لن يتجه الخطاب أو النقاش حوله للدولة كما هو عليه الان ، وإنما سيوجه إلى المؤسسة القضائية و القاضي الذي حماه الدستور من أي تدخل عملا بمقتضيات الفصل 109 من دستور 2011.
المفهوم الجديد لاستقلال القضاء، سيكون على رجال القانون وأصحاب القرار الاشتغال عليه لتدقيقه وتحصينه،وهذا يعني أن البرلمان المقبل الذي سيمثل جميع المغاربة في ظل دستور 2011 هو المؤهل للجواب، قانونا، على تلك الأسئلة وتلك الإشكالات لأن القوانين التنظيمية هو من سيحررها و يصوت عليها .
إن القضاء وإن تم الارتقاء به على مستوى المصطلح إلى "سلطة"، فإنها تبقى سلطة مشوبة بعدد من عوامل اللاتوازن، من خلال رئاسة الملك لما سمي "المجلس الأعلى للسلطة القضائية" ، والنص على صلاحياته في تعيين خمسة من أعضاء هذا المجلس من خارج رجال القضاء ، وهذا قد يلتمس له مبررا في كون الملك هو الضامن لاستقلالية القضاء حسب الفصل 107 من الدستور... لكنها صلاحيات مرفوضة مبدئيا اعتبارا لكونها آلية تخل باستقلالية السلطة القضائية.
والاستقلال الكامل للسلطة القضائية يعني أنه لا يجوز باسم أي سلطة سياسية أو إدارية، أو أي نفوذ مادي أو معنوي، التدخل في أي عمل من أعمال القضاء، أو التأثير عليه بأي شكل من الأشكال، ولا يجوز لأي شخص أو مؤسسة من السلطة التنفيذية، ولو كان وزير العدل أو رئيس الدولة، أن يتدخل لدى القضاء بخصوص أي قضية معروضة عليه للبت فيهـا، أو ممارسة ضغط مباشر أو غير مباشر للتأثير على المحاكم فيما تصدره من أحكام قضائية، وألا يخضع القضاة وهم يزاولون مهامهم إلا لضمائرهم، ولا سلطان عليهم لغير القانون.
ولا زالت بعض المحاكمات والأحكام القضائية في المغرب تثير استغراب الحقوقيين والمهتمين بشؤون القضاء، فضلا عن المعنيين المباشرين بها، ويحدث ذلك بصفة خاصة في قضايا لها علاقة بالحياة السياسية، أو بالأمن العام، أو تتعلق بممارسات بعض المسؤولين في الدولة، أو في المتابعات التي تطال بعض الصحف، مما يجعل استقلال القضاء المغربي موضع تساؤل كبير لدى الرأي العام على الصعيدين الوطني والدولي.
ورغم أن السلك القضائي في المغرب، يضم الكثير من القضاة الأكفاء والنزهاء، فإن ما يجري في المحاكم، وما يقترفه عدد من المرتشين والمنحرفين، يسيء إلى سمعة القضاء بصفة عامة، ولا يمنح الاطمئنان للمتقاضين على مصالحهم وحقوقهم، ولا يبعث على ثقة المواطنين، والمستثمرين المغاربة والأجانب، وما ينجم عن ذلك من انكماش اقتصادي، واستفحال للبطالة.
ويضاف إلى كل ذلك عدم التزام بعض الجهات الإدارية بأحكام وقرارات القضاء، والمشاكل المتعلقة بالجسم القضائي، كالوضعية المادية والمعنوية للقضاة، والنقص في الإمكانيات الموضوعة رهن إشارتهم في المحاكم، وتراكم الملفات وكثرة عددها بالمقارنة مع عدد القضاة الموكول إليهم البت فيها، والنقص في التكوين بالنسبة لكتاب الضبط...كل ذلك يؤثر بشكل سلبي على سير العدالة.
ولضمان الاستقلال التام للقضاء، وتحصينه في مواجهة الضغوط والمغريات، وضمان نزاهته وفعاليته، لابد من اعتباره سلطة قائمة بذاتها، وتوفير الشروط المادية والمعنوية الضرورية لحسن سير العمل القضائي، وتوفير الضمانات الكافية لتنفيذ الأحكام والقرارات القضائية في مواجهة كل الجهات التي يُحكم ضدها على قدم المساواة، وإسناد كل ما يتعلق بتسيير الجهاز القضائي، إلى هيئة عليا تتكون من القضاة أنفسهم، ولا تتدخل في شؤونها أي سلطة أخرى، ولا أي جهة من خارج القضاء، وتتولى هذه الهيئة البت في الوضعيات الإدارية والمادية للقضاة بجميع مستوياتهم، واتخاذ القرارات المتعلقة بترقياتهم، أو بتغيير أماكن عملهم، أو بتأديبهم عندما يثبت لها ما يدع إلى ذلك، دون أن يكون لأي سلطة أخرى حق التدخل أو التأثير أو التوجيه، لا في تسيير الجهاز القضائي، ولا فيما يزاوله القضاة من عمل، وما يصدرونه من أحكام. كما يجب أن تسهر نفس الهيئة على أن توفر للقضاة الظروف الملائمة، والوسائل المادية والمعنوية التي تصون كرامتهم، وتحصنهم في مواجهة أي إغراء أو تأثير يمكن أن يمارس عليهم من لدن ذوي النفوذ، أو المال، أو الجاه.
ولذلك فإن الإصلاحات المنشودة في موضوع استقلال القضاء في هذه المرحلة، لا تنحصر في تعديلات دستورية لتأكيد المبدأ، وإنما ينبغي أن تشمل تغييرات جوهرية للقوانين المتعلقة بالجسم القضائي، وتوفير الضمانات والوسائل الضرورية لترجمة المبدأ إلى واقع.
خاتمة :
وما نريد أن نستخلصه، هو أن المغرب في حاجة إلى ولوج عهد جديد، تكون ميزته إقامة ديمقراطية حقيقية، لا تنحصر في ترديد مجموعة من الشعارات، وكتابة بعض المبادئ في الدستور، وإقامة واجهات شكلية، وإنما ديمقراطية تتبلور من خلالها سيادة الشعب، ودولة المؤسسات التي تكون فيها السلطة القضائية مستقلة وبعيدة عن أي تأثير، لتضطلع بدورها كضمانة أساسية لاحترام حقوق الإنسان، وحماية الحريات الفردية والجماعية، وإقامة العدل في المجتمع، في ظل المساواة وسيادة القانون.
إن المغرب في حاجة إلى طي مرحلة الانتقال التي امتدت سنوات طويلة وولوج عهد الديمقراطية، وفق قواعدها الجوهرية، ومقوماتها الأساسية المتعارف عليها، ومن أهمها فصل السلط واستقلال ونزاهة السلطة القضائية، واحترام سيادة القانون؛ وبذلك سيتمكن المغرب من تدارك ما ضاع من الزمن، ومواجهة التحديات الداخلية والخارجية، وربح رهان التنمية الشاملة والمستدامة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق