المجلس الأعلى للسلطة القضائية ودوره في تحقيق ضمانات المحاكمة العادلة
يعتبر الحق في المحاكمة العادلة من الحقوق الأساسية للإنسان. وهناك جملة من المعايير الدولية لضمان المحاكمة العادلة.
ولا يمكن الحديث عن محاكمة عادلة يشهد لها الجميع بالعدل والإنصاف إلا إذا توفر شرطان.
أولهما الالتزام بإجراء المحاكمة من بدايتها إلى نهايتها حسب المعايير المنصوص عليها في المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، وثانيهما من الضروري أن تكون السلطة القضائية سلطة مستقلة ومحايدة.
أولهما الالتزام بإجراء المحاكمة من بدايتها إلى نهايتها حسب المعايير المنصوص عليها في المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، وثانيهما من الضروري أن تكون السلطة القضائية سلطة مستقلة ومحايدة.
فالإعلان العالمي لحقوق الإنسان ينص في مادته العاشرة على أن :
" لكل إنسان على قدم المساواة التامة مع الآخرين في أن تنظر قضيته محكمة مستقلة ومحايدة نظرا منصفا وعلنيا، للفصل في حقوقه والتزاماته وفي أية تهمة جزائية توجه إليه".
أما العهد الدولي المتعلق بالحقوق المدنية والسياسية فقد نصت المادة 14 منه على ما يلي : " من حق كل فرد أن تكون قضيته محل نظر منصف وعلني من قبل محكمة مختصة مستقلة حيادية منشأة بحكم القانون".
والهدف من المحاكمة العادلة هو الوصول إلى الحقيقة بسرعة وفعالية لتحقيق المصلحة العامة، أما ضماناتها هي أن يتحقق هذا الهدف على يد قضاء محايد ومستقل. وموضوع استقلال القضاء شأن يتجاوز بكثير حدود القضاة أنفسهم، إذ أنه في جوهره وثيق الصلة بقضية العدل وميزان الحرية في المجتمع، ففي الدول الديمقراطية قيمتي العدل والحرية تتأثران سلبا وإيجابا بمقدار ما هو متوافر من استقلال للقضاء في كل بلد، لذلك فإننا حين ندافع عن استقلال القضاء ونتشبث به، فإنما ندافع عن أنفسنا في حقيقة الأمر، وحين يستشعر القضاة قلقا من جراء نقصان استقلالهم، فإن ذلك القلق ينبغي أن ينسحب علينا تلقائيا، إذ لا يمكن للقاضي أن يمارس مهامه مطمئنا هادئا دون ضمانات تحصنه وتؤكد استقلاله، إذ لا سلطان عليه في قضائه لغير القانون، ولضميره وتجرده ضمانا لحرية الأفراد وإنصافهم، وهذه الحصانة مقررة للقضاء بموجب دستور المملكة لسنة 2011 ويسهر المجلس الأعلى للسلطة القضائية على تطبيقها من حيث التعيين والترقية والتقاعد والتأديب.
وفي انتظار المصادقة على مشروع القانون التنظيمي رقم 100.13 المتعلق بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية وإخراج هذه المؤسسة الدستورية إلى الوجود بما تمثله من رمزية لاستقلال السلطة القضائية عن باقي السلط خاصة السلطة التنفيذية، وما منحت من صلاحيات واختصاصات بموجب الدستور في تسيير وتدبير السلطة القضائية، يحق لنا أن نتساءل عن دور المجلس الأعلى للسلطة القضائية في بلورة المحاكمة العادلة ؟ هذا التساؤل المحوري تتفرع عنه مجموعة من التساؤلات الفرعية من قبيل ما هي مكونات هذا المجلس؟ وما هي اختصاصاته؟ ما هي الضمانات التي يقدمها لتحقيق محاكمات عادلة؟ كيف يساهم في تخليق الحقل القضائي؟.
نظرا لندرة الكتابات في هذا الموضوع إن لم نقل انعدامها لحداثته، فان هذه التساؤلات سنحاول الإجابة عنها من خلال تحليل واستقراء فصول الدستور وما جاء به مشروع القانون التنظيمي رقم 100.13 المتعلق بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية وفق المنهجية التالية:
المبحث الأول: التنظيم الهيكلي للمجلس واختصاصاته
المبحث الثاني: دور المجلس في ضمان المحاكمة العادلة
وسيرا على نهج المادة 4 من مشروع القانون التنظيمي 100.13 المتعلق بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية، فإننا سنشير إلى هذا الأخير بمصطلح المجلس وإلى الأول بمصطلح المشروع تفاديا للإطناب.
المبحث الأول: تأليف المجلس واختصاصاته
إن الدور المحوري والمركزي الذي ينتظر من المجلس أن يضطلع به مباشرة بعد إنشائه وفق مقتضيات الدستور الجديد، والمتمثل في السهر على تطبيق الضمانات الممنوحة للقضاة، ووضع تقارير حول وضعية القضاء ومنظومة العدالة، إضافة إلى إصدار أراء مفصلة حول كل مسألة تتعلق بسير القضاء. وكذا ما يمثله المجلس من رمزية للاستقلالية المنشودة والتي ركز عليها الدستور نفسه في الفصل 107 حيث نص على أن السلطة القضائية مستقلة عن باقي السلط من غير إهمال التعاون بينهما، وأن الملك هو الضامن لهذه الإستقلالية من جهة، ومن جهة أخرى فالمجلس يستمد قوته من الفصل 115 الذي ينص على أن الملك هو الذي يرأس المجلس، مع وجود تمثيليات من خارج أسرة القضاء ضمانا للشفافية.
على أساس ما سبق سنقسم هذا المبحث إلى مطلبين حيث سنتناول في المطلب الأول تأليف المجلس، بينما سنخصص المطلب الثاني لاختصاصات وصلاحيات المجلس.
المطلب الأول: تأليف المجلس
حسب المادة 5 من المشروع وطبقا للفصل 115 من الدستور المغربي، فإن الملك يرأس المجلس الأعلى للسلطة القضائية، ويتألف هذا المجلس من ثلاث فئات:
ü فئة الأعضاء الدائمون:
- الرئيس الأول لمحكمة النقض، رئيسا منتدبا
- الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض
- رئيس الغرفة الأولى بمحكمة النقض
- الوسيط
- رئيس المجلس الوطني لحقوق الإنسان
ü فئة الأعضاء المنتخبون:
- أربعة ممثلين لقضاة محاكم الاستئناف، ينتخبهم هؤلاء القضاة من بينهم
- ستة ممثلين لقضاة محاكم أول درجة، ينتخبهم هؤلاء القضاة من بينهم
ويجب ضمان تمثيلية النساء القاضيات من بين الأعضاء العشرة المنتخبين، بما يتناسب مع حضورهن داخل السلك القضائي.
ü فئة الأعضاء المعينون :
- خمس شخصيات يعينها الملك، مشهود لها بالكفاءة والتجرد والنزاهة، والعطاء المتميز في سبيل استقلال القضاء وسيادة القانون من بينهم عضو يقترحه الأمين العام للمجلس العلمي الأعلى.[1]
والملاحظ في هذه التشكيلة أنها تتسم بالتنوع ولا تقتصر على من يحملون الصفة القضائية فقط، وهذه مسألة جد إيجابية تمثل ضمانا من ضمانات المحاكمة العادلة وتجسد الروح الديمقراطية للدستور القائمة على مبدأ التشاركية، كما أنها تعكس المبادئ الدولية بشأن تشكيل المجالس العليا للقضاء.
كما تم التعرض أيضا لمسألة تعويضات السادة الأعضاء من لهم الصفة القضائية بمناسبة قيامهم بمهامهم في المجلس وعدم الجمع بينها وبين تعويضات أو أجور أخرى وهذا ما نصت عليه المادة 11 من المشروع، وبالنسبة لمدة العضوية التي تم تحديدها في خمس سنوات غير قابلة للتجديد بالنسبة للأعضاء المنتخبين، وقابلة للتجديد مرة واحدة بالنسبة للأعضاء المعينين من طرف العاهل المغربي، بالإضافة إلى حالات انتهاء العضوية المنصوص عليها في المادة 13 من المشروع، ونشير هنا إلى ملاحظة بشأن هذه الأخيرة حيث ورد فيها لفظ "الإحالة "على التقاعد بالنسبة للأعضاء المنتخبين كحالة من حالات انتهاء العضوية، والحال أن الإحالة هي نوع من العقوبة، وكان الأولى استبدالها بكلمة "بلوغ" سن التقاعد.[2]
هذا وقد نصت كل من المواد 14-15-16 من المشروع على أن استقالة الأعضاء تقدم إلى الرئيس المنتدب للمجلس، فتباشر مسطرة تعيين من يخلفه خلال مدة 15 عشر يوما من تاريخ رفع الأمر إلى الملك.
وبعد استكمال تشكيلة المجلس يبقى لنا أن نستعرض اختصاصاته، وهو ما سنعرج عليه من خلال المطلب الثاني.
المطلب الثاني: اختصاصات المجلس
مبدئيا يمكن القول أن المجلس تبرز فعاليته القصوى في تكريس ضمانات المحاكمة العادلة انطلاقا من الدور الاختصاصي المنوط به دستوريا وتنظيميا.
ولنا في ذلك مرجعيتين اثنتين، مرجعية دستورية ومرجعية تنظيمية.
أولا : المرجعية الدستورية المؤطرة لاختصاصات وصلاحيات المجلس.
تتأطر هذه المرجعية ضمن مقتضيات الفصل 113 من الدستور[3]، والتي تتيح إمكانية تحديد الاختصاصات التي بواسطتها يمكن للمجلس أن يسهم بدور فاعل في بلورة المحاكمة العادلة.
ويمكن أن نجري في ضوء نص هذا الفصل قراءتين اثنتين .
أولها : عبر مدخل منطوق النص
وثانيها: عبر مدخل مفهوم النص
ـ أـ القراءة المنطوقة للنص
تفرز لنا هذه القراءة مجموعة من المعطيات التي نبرزها فيما يلي.
ـ المجلس له وظيفة السهر على تطبيق الضمانات الممنوحة للقضاة، إذن فهو لا يطبق هذه الضمانات فحسب، وإنما يطبقها ويسهر على تطبيقها في آن واحد.
ـ المجلس له وظيفة وضع تقارير تنصرف نحو رصد وضعية منظومة العدالة.
ـ المجلس له وظيفة إصدار توصيات بشأن وضعية منظومة العدالة .
ـ المجلس له وظيفة استشارية، ذلك أن الدستور في هذا الفصل خول للمجلس صلاحية إصدار آراء مفصلة حول كل المشاكل المتعلقة بسير القضاء.
كل هذه الاختصاصات نستخلصها بشكل مباشر من منطوق الفصل 113 من الدستور، وهي اختصارا تتحدد في أربعة وظائف تختزلها أربع كلمات وهي:( سهر، تقرير، توصية، واستشارة).
ـ ب ـ القراءة المفهومية للنص[4]
المقصود بالقراءة المفهومية للنص تلك الاستنتاجات التي تستشف من جوهر النص وليس من شكله، وتحيلنا مقتضيات الفصل 113 من الدستور على مجموعة من المستنتجات:
ـ المجلس تربطه بباقي السلط علاقة اتصال وانفصال في آن واحد، اتصال يتوخى التكامل وانفصال يبتغي تحقيق التوازن، وذلك مسالة تستنتج من حيث كون الدستور خول للمجلس صلاحية تقديم الآراء للبرلمان أو الحكومة.
ـ المجلس تربطه بالمحاكمة العادلة علاقة إشراف أحيانا وحماية أحيانا أخرى، أما علاقة الإشراف على المحاكمة العادلة فتتجلى في كونه يمتلك وظيفة السهر على تطبيق الضمانات الممنوحة للقضاة، استقلالا، تعيينا، ترقية، وتأديبا.
وحيث إن استقلال القضاة جزء من استقلال العدالة فإن المجلس بهذا يكون مساهما مباشرا في بلورة المحاكمة العادلة من نافذة القضاة وليس من جهة المتقاضين.
ثانيا: المرجعية التنظيمية المؤطرة لاختصاصات وصلاحيات المجلس
يتجاذب هذه المرجعية ثلاث مواد تنظيمية وهي كما يلي.
ـ أ ـ المادة 62 [5] من المشروع
بتدقيق النظر في بنود هذه المادة نستشف على أنها جاءت متفاعلة ومتكاملة مع الفصل 113 من الدستور، إن على مستوى تأسيس المبدأ أو على مستوى تفصيل القاعدة، المقصود هنا تأسيس مبدأ استقلالية القاضي ضمانا للمحاكمة العادلة، وتفصيل قاعدة الجودة المهنية للقضاة، هذه الأخيرة جعلتها المادة 62 مرتكزة على مجموعة من الأسس .
أولها: تكافؤ الفرص والاستحقاق
وثانيها: الكفاءة والشفافية
وثالثها: الحياد والسعي نحو المناصفة .
كل هذه المرتكزات تمنح في إطارها الجمعي اختصاصا تدبيريا للمجلس يضاف إلى الاختصاصات الدستورية الآنف ذكرها.
ـ ب ـ المادتان 97 و 101[6] من المشروع
بلمحة سريعة إلى مقتضيات هذين البندين نجد أن المشروع أضاف في المادة 97 اختصاصا آخر للمجلس ألا وهو الاختصاص الحمائي، وفحوى هذا الاختصاص عميق جدا لكونه لا ينصرف نحو حماية القاضي أو المتقاضي، وإنما ينصرف بالدرجة الأولى نحو حماية القيم القضائية صونا ونشرا لقيم النزاهة والتخليق.
أما المادة 101 من المشروع فيمكن وصفها بالمادة الجردية، لكونها جاءت على شاكلة جرد فيها المشرع المضامين التي ينبغي توافرها في التقارير الموضوعية والمصدرة من لدن المجلس، هذه التقارير منحها المشرع جملة من الصفات، أهمها الصفة الاقتراحية التي حددها في كون المجلس يقترح دعم حقوق السبل الكفيلة بدعم (حقوق المتقاضين، تحسين أداء القضاة، دعم نزاهتهم واستقلالهم، تنمية النجاعة القضائية، تأهيل الموارد البشرية وتحسين الأوضاع المادية والاجتماعية للقضاة).
المبحث الثاني : دور المجلس في ضمان المحاكمة العادلة
من أهم الأدوار التي يجب على المجلس أن يضطلع بها بعد إنشائه، ضمان استقلالية السلطة القضائية عن باقي السلط، مما سيضع حدا لأي تدخل في شؤون القضاء خصوصا من طرف السلطة التنفيذية التي سحب من تحت أقدامها بساط رئاسة القضاء وبساط رئاسة النيابة العامة وإسناد رئاستها على التوالي إلى كل من الرئيس الأول لمحكمة النقض رئيسا منتدبا للمجلس، والوكيل العام لدى محكمة النقض رئيسا للنيابة العامة بدل وزير العدل، وكذا من أهم الأدوار أيضا التي منحت له، تخليق منظومة العدالة بصفة عامة والقضاء بصفة خاصة عن طريق وضع مدونات السلوك الأخلاقية والمهنية.
على أساس ما سبق سنقسم هذا المبحث إلى مطلبين حيث سنتناول في المطلب الأول المحاكمة العادلة من خلال استقلالية المجلس، بينما سنخصص المطلب الثاني للمحاكمة العادلة من خلال تخليق القضاء.
المطلب الأول: المحاكمة العادلة من خلال استقلالية المجلس.
وفق الدستور الجديد يعتبر المجلس بمثابة هيئة عليا تسهر على استقلال القضاء وتطبيق الضمانات الممنوحة للقضاة، ومن الواضح أن التعديل الدستوري الجديد الذي طرأ على هذه المؤسسة لم يغير في التسمية فقط، وإنما امتد ليشمل أيضا المقتضيات المتعلقة باختصاصاتها وتنظيمها وتشكيلتها، حيث أصبحت هذه المؤسسة الدستورية تحضى بالاستقلال الإداري والمالي، إضافة إلى منحه صلاحيات جديدة كما ذكرنا في المبحث الأول من هذا العرض.
وباستقراء الفصل 116 من الدستور في فقرته الثانية التي تنص على أن المجلس يتوفر على الاستقلال الإداري والمالي، وكذا المادة 4 في فقرته الأولى من المشروع، يمكن القول على أن ما نصت عليه المقتضيات الدستورية الجديدة والمشروع، أصبح هذا الأخير هيأة مستقلة متمتعة بالشخصية الاعتبارية والاستقلال الإداري والمالي، وأن الدولة ملزمة بتوفير كافة الوسائل المادية والبشرية، وكذا مقر خاص كي يتسنى له القيام بالمهام المسندة إليه.
وأيضا لتدعيم هذا الاستقلال الإداري والمالي للمجلس جاء في المادة 59 من المشروع أن للمجلس ميزانية خاصة به، ويسجل الاعتمادات المرصودة له في الميزانية العامة للدولة تحت فصل يحمل عنوان "ميزانية المجلس الأعلى للسلطة القضائية".
تكمن أيضا استقلاليته إلى إسناد رئاسة المجلس للرئيس الأول لمحكمة النقض كرئيس منتدبا -المادة 5 من المشروع التنظيمي للمجلس- وتخويل الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض رئاسة النيابة العامة وتتبع أعمال هذه الأخيرة هذا من جهة ومن جهة أخرى لابد من تعديل المادة 51 من قانون المسطرة الجناية التي تخول لوزير العدل الإشراف على تنفيذ السياسة الجنائية وبالتالي هيمنته على النيابة العامة وذلك في تنافر واضح مع تركيبة المجلس ومبدأ استقلال السلطة القضائية.
فاستقلالية النيابة العامة عن وزير العدل يعتبر من المبررات الدستورية، فأحكام الدستور أقرت بجلاء على ضمان استقلالية السلطة القضائية على باقي السلطتين، وعليه لا يمكن القول على أن السلطة القضائية مستقلة إلى حين فصل النيابة العامة عن وزارة العدل.
أما فيما يخص التفتيش القضائي فالمادة 13 من ظهير التنظيم القضائي تبرز دور وزير العدل في الأمر بإجراء تفتيش ودوره في البحث في الوقائع كما تنص على ما يتوفر عليه المفتشون من سلطة عامة للتحري والتحقق لكن في المقابل جاءت مسودة التنظيم القضائي بمستجد في المادة 103 "يشرف الرئيس الأول لمحكمة النقض على الرؤساء الأولين لمحاكم ثاني درجة وعلى رؤساء محاكم أول درجة، للوكيل العام للملك لدى محكمة النقض سلطة على كافة أعضاء النيابة العامة بالمحاكم " فمن خلال استقراء الفصل 103 من المسودة والمادة 81 من المشروع التنظيمي للمجلس يتضح على أن المشرع نهج نحو إحداث مفتنشية عامة بالمجلس تتولى التفتيش القضائي وإنشاء مفتشية عامة بوزارة العدل تتولى التفتيش الإداري والمالي، وهذا يدل على مدى تكريس المشرع لاستقلالية المجلس من أجل ضمان محاكمة عادلة.
لكن يبقي السؤال المطروح هل المفتشية العامة للشؤون القضائية تابعة للمجلس أم أنها مستقلة عنه؟ ونحن نعلم أن الفصل 116 من الدستور ينص على ما يلي : "... يساعد المجلس الأعلى للسلطة القضائية في المادة التأديبية قضاة مفتشون من ذوي الخبرة"، فمصطلح المساعدة الوارد بالدستور لا يعني بالضرورة الخضوع لسلطة المجلس.
المطلب الثاني : المحاكمة العادلة من خلال تخليق القضاء
يلعب تخليق القضاء دورا حاسما في ضمان عدالة المحاكمات، وذلك بفرضه مجموعة من المبادئ والأخلاقيات التي تتصف بالإلزام، لكن مع ذلك فمنظومة العدالة تعاني بكل مكوناتها من نقص في الشفافية وضعف في آليات المراقبة والمساءلة، وتراجع في أخلاقيات الممارسة المهنية[7]، الأمر الذي يفسح المجال لممارسات منحرفة يساهم فيها بعض المتقاضين عن قصد أو غير قصد، مما يحول دون تحصين وتخليق منظومة العدالة بصفة عامة والقضاء بصفة خاصة، وبالتالي تأثيره على دور القضاء في تخليق الحياة العامة كأساس لضمان المحاكمة العادلة.
وكنتيجة لذلك فقد نص ميثاق إصلاح منظومة العدالة على العديد من الإجراءات القانونية لتخليق القضاء، وهو ما تم صياغته بمشروع القانون التنظيمي للمجلس الأعلى للسلطة القضائية، نسرد أهمها على سبيل المثال لا الحصر:
وضع مدونة السلوك الأخلاقية والمهنية من طرف المجلس حيث نصت المادة 99 من المشروع أن المجلس يضع بعد استشارة الجمعيات المهنية للقضاة مدونة للأخلاقيات القضائية تتضمن القيم والمبادئ والقواعد التي يتعين على القضاة الالتزام بها أثناء ممارستهم لمهامهم ومسؤولياتهم القضائية، وذلك من أجل:
Ø الحفاظ على استقلالية القضاء وتمكينهم من ممارسة مهامهم بكل نزاهة وتجرد ومسؤولية.
Ø صيانة هيبة الهيئة القضائية التي ينتسبون إليها والتقيد بالأخلاقيات النبيلة للعمل القضائي والالتزام بحسن تطبيق قواعد سير العدالة.
Ø حماية حقوق المتقاضين وسائر مرتفقي القضاء والسهر على حسن معاملتهم في إطار الاحترام التام للقانون.
Ø تأمين استمرارية مرفق القضاء والعمل على ضمان حسن سيره.
وسوف تنشر هذه المدونة في الجريدة الرسمية لإطلاع العموم عليها، كما سيشكل المجلس لجنة للأخلاقيات القضائية تسهر على تتبع ومراقبة التزام القضاة بالمدونة المذكورة[8].
وقد عهد المشروع أيضا للرئيس المنتدب مهمة تتبع وتقدير ثروة القضاة بواسطة المفتشية العامة للشؤون القضائية وهو ما نصت عليه المادة 100 من المشروع حيث يتابع تأديبيا كل قاض ثبتت زيادة ممتلكاته خلال فترة ممارسة مهامه زيادة ملحوظة لا يستطيع تبريرها بصورة معقولة[9].
وخلافا لما هو معمول به حاليا، نص المشروع على حق القاضي المتابع في الإطلاع على الوثائق المتعلقة بملفه التأديبي وأخد نسخ منها، وإمكانية مؤازرته بواسطة أحد زملائه أو بمحامي[10]، مع تخويله حق الطعن في المقررات المتعلقة بالوضعية الفردية الصادرة عن المجلس بسبب الشطط في استعمال السلطة أمام الغرفة الإدارية بمحكمة النقض داخل أجل ثلاثون يوما من تاريخ تبليغها للمعني بالأمر[11]، لكن هذا الطعن لا يوقف تنفيذها، بل يمكن للغرفة الإدارية أن تأمر بصورة استثنائية بوقف تنفيذ المقرر المطلوب إيقافه إذا التمس ذلك منها طالب الإلغاء صراحة، وما يعاب على هذه المادة التي جاءت كتطبيق لما تضمنه الفصل 114 من دستور 2011، أنه كيف يتصور إلغاء مقرر صادر عن المجلس الأعلى للسلطة القضائية الذي يرأسه عمليا الرئيس الأول لمحكمة النقض كرئيس منتدب، من طرف مستشاري الغرفة الإدارية بمحكمة النقض والذين يخضعون أيضا لرئاسة الرئيس الأول لمحكمة النقض؟ أي بعبارة أخرى ما هو تأثير إلغاء قرار صادر عن الرئيس من طرف المرؤوس في العلاقة بينهما خصوصا على مستوى تنقيط المستشار أو الهيئة التي قامت بإلغاء القرار؟
خاتمة :
لا شك أن الدستور المغربي الجديد لسنة 2011، وانطلاقا من مرجعياته، قد نص على استقلالية القضاء والقضاة خدمة لحرية الإنسان وحقوقه أي ضمانا للمحاكمة العادلة، وتباعا لذلك، فاستقلالية القضاء تقتضي لزوما التنصيص على استقلالية القاضي لا كشخص بل كفاعل نبيل ترك له المشرع الدستوري، كلما تم المس باستقلاليته، حق إحالة ذلك على المجلس الأعلى للسلطة القضائية؛ هذا علما بأن كل إخلال بالاستقلالية اعتبره النص الدستوري خطأ مهنيا جسيما أو غشا، ونص كذلك على عقاب الجهة المؤثرة[12].
القاضي ملزم بتطبيق القانون الذي هو أسمى تعبير عن إرادة الأمة والذي يعتبر المعبر عن طموحاتها وخيارات نمط عيشها. ينص الفصل 110 الفقرة الأولى:" لا يلزم قضاة الأحكام إلا بتطبيق القانون ولا تصدر أحكام القضاء إلا على أساس التطبيق العادل للقانون". وفي كل هذا منح النص الدستوري القضاة حق ومسؤولية إصدار الأحكام القضائية مع لزوم استحضار الحياد والابتعاد عن الشبهات.
إن ضمان حصول استقلالية السلطة القضائية عن التنفيذية الذي هو شرط العدالة والمساواة، ولجم الشطط والتسلط، تجسد في المجلس الأعلى للسلطة القضائية وهي هيئة عليا ضامنة لاستقلالية سلطة القضاء وكذا تشخيصه للوقوف على مكامن الخلل وصياغتها في شكل توصيات وتقارير من أجل العمل على تجاوزها بحثا عن الحفاظ على أمن وسعادة المواطن المغربي وصونا لحقوقه، هذا دون نسيان تحملها مسؤولية إصدار آراء مفصلة بطلب من الملك أو الحكومة أو البرلمان حول سير القضاء [13].
وتجدر الإشارة إلى أن السلطة القضائية المغربية تمر بمرحلة جد حساسة، تتميز بالنقاش المجتمعي الذي يتركز على مشروعي القانونين التنظيميين للمجلس الأعلى للسلطة القضائية والنظام الأساسي للقضاة، بحيث عبرت مجموعة من الهيئات الممثلة للقضاة عن ارتياحها ودعمها للتقدم الحاصل خاصة فيما يخص الضمانات الممنوحة للقضاة حيث سيكون بإمكانهم الاستعانة بالدفاع أمام المجلس كما سيصبح بإمكانهم الطعن في مقررات المجلس أمام الغرفة الإدارية بمحكمة النقض وهذا أمر لا يتاح لهم حاليا أمام المجلس الأعلى للقضاء. كما أنهم عبروا عن مجموعة من التحفظات والتخوفات من التنزيل الغير السليم لمقتضيات الدستور وقدموا في ذلك مذكرات يبينوا من خلالها تصوراتهم ومقترحاتهم كان أهمها هو:
ü إقرار مبدأ الانتخاب كأسلوب لاختيار الرئيس الأول لمحكمة النقض والوكيل العام للملك لديها مع تحديد عدد الولايات تجسيدا لمبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة.
ü عدم تعيين شخصيات تنتمي إلى إحدى السلطتين في المجلس.
ü تمكين المجلس من موظفين تابعين له.
ü العمل على إنشاء مجلس للدولة للطعن في مقررات المجلس بدل الغرفة الإدارية بمحكمة النقض خصوصا وان رئيس محكمة النقض هو الرئيس المنتدب للمجلس.
وفي الأخير لا يسعنا إلا أن نردد ما قاله جلالة الملك بمناسبة الذكرى 14 لعيد العرش 30 يوليوز 2013 حيث قال: " ما فتئنا منذ تولينا أمانة قيادتك، نضع إصلاح القضاء، وتخليقه وعصرنته، وترسيخ استقلاله، في صلب اهتماماتنا، ليس فقط لإحقاق الحقوق ورفع المظالم. وإنما أيضا لتوفير مناخ الثقة، كمحفز على التنمية والاستثمار. وفي هذا الصدد، نسجل بارتياح التوصل إلى ميثاق لإصلاح المنظومة القضائية. حيث توافرت له كل الظروف الملائمة. ومن ثم، فإنه يجب أن نتجند جميعا، من أجل إيصال هذا الإصلاح الهام، إلى محطته النهائية.
ومهما تكن أهمية هذا الإصلاح، وما عبأنا له من نصوص تنظيمية، وآليات فعالة، فسيظل “الضمير المسؤول” للفاعلين فيه، هو المحك الحقيقي لإصلاحه، بل وقوام نجاح هذا القطاع برمته ".
مشروع قانون تنظيمي رقم 100.13 يتعلق بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية، الأمانة العامة للحكومة (المطبعة الرسمية)-الرباط 2014/1436[1]
دة/ نزهة مسافر، قراءة في مشروع قانون المجلس الأعلى للسلطة القضائية[2]
[3] ـ ينص الفصل 113 من الدستور على ما يلي:
يسهر المجلس الأعلى للسلطة على تطبيق الضمانات الممنوحة للقضاة ولا سيما فيما يخص استقلالهم وتعيينهم وترقيتهم وتقاعدهم وتاديبهم . يضع المجلس الاعلى للسلطة القضائية بمبادرة منه تقارير حول وضعية القضاء ومنظومة العدالة ويصدر التوصيات الملائمة بشأنها . يصدر المجلس الأعلى للسلطة القضائية بطلب من الملك أو الحكومة او البرلمان آراء مفصلة حول كل مسألة تتعلق بسير القضاء مع مراعاة مبدأ فصل السلط.
[4]ـ المقصود بالقراءة المفهو مية ذلك الصنف من أصناف قراءة اللفظ لدى علماء أصول الفقه الذين يستعملون مفهوم النص أو منطوق النص أو إشارة النص . للتوسع يرجى الاطلاع على كتب أصول الفقه.
[5] تنص المادة 62 من مشروع قانون تنظيمي رقم 100.13 على ما يلي :
طبقا لأحكام الفقرة الاولى من الفصل 113 من الدستور ، يسهر المجلس الأعلى على تطبيق الضمانات الممنوحة للقضاة ، ومن أجل ذلك يقوم بتدبير وضعيتهم المهنية وفق مبادئ تكافؤ الفرص والاستحقاق والكفاءة والشفافية والحياد والسعي نحو المناصفة ، وكذا المعايير المنصوص عليها في هذا القانون التنظيمي والشروط المحددة في النظام الأساسي للقضاة
[6] ـ تنص المادة 97 من مشروع القانون التنظيمي اعلاه على ما يلي:
يسهر المجلس على ضمان احترام القيم القضائية والتشبث بها وإشاعة ثقافة النزاهة واتخليق بما يعزز استقلال القضاء . ويتخذ لجل ذلك كل كل الأجراءات التي يراها مناسبة . وتطبيقا لأحكام الفقرة الثانية من الفصل 109 من الدستور. يجب على كل قاض اعتبر ان استقلاله مهدد أن يحيل الأمر إلى المجلس الأعلى للسلطة القضائية.
وتنص المادة 101 من نفس المشروع على ما يلي:
طبقا لأحكام الفقرة الثانية من الفصل 113 من الدستور، يضع المجلس الأعلى للسلطة القضائية بمبادرة منه تقارير حول وضعية القضاة ومنظومة العدالة ، ويصدر التوصيات الملائمة بشأنها. تتضمن هذه التقارير بصفة خاصة المقترحات الرامية إلى :
ـ دعم حقوق المتقاضين والسهر على حسن تطبيق قواعد سير العدالة
ـ تحسين أداء القضاة
ـ دعم نزاهة واستقلال القضاء
ـ الرفع من النجاعة القضائية
ـ تأهيل الموارد البشرية
ـ تحسين الأوضاع المادية والاجتماعية للقضاة
[7] - ميثاق إصلاح منظومة العدالة الصادر بتاريخ يوليو 2013 صفحة 44
[8] المادة 99 من مشروع قانون تنظيمي رقم 100_13 المتعلق بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية.
[9] - المادة 100 من مشروع قانون تنظيمي رقم 100_13 المتعلق بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية.
[10] المادة 88 من مشروع قانون تنظيمي رقم 100_13 المتعلق بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية.
[11] المادة 95 من مشروع قانون تنظيمي رقم 100_13 المتعلق بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية.
[12] ينص الفصل 109: "يمنع كل تدخل في القضايا المعروضة على القضاء ولا يتلقى القاضي بشأن مهمته القضائية أي أوامر أو تعليمات ولا يخضع لأي ضغط .
يجب على القاضي، كلما اعتبر استقلاله مهددا، أن يحيل الأمر إلى المجلس الأعلى للسلطة القضائية.
يعد كل إخلال من القاضي بواجب الاستقلال والتجرد خطأ مهنيا جسيما، بصرف النظر عن المتابعات القضائية المحتملة. يعاقب القانون كل من حاول من حاول التأثير على القاضي بكيفية غير مشروعة."
[13] ينص الفصل 113: "يسهر المجلس الأعلى للسلطة القضائية على تطبيق الضمانات الممنوحة للقضاة ولا سيما فيما يخص استقلالهم وتعيينهم وترقيتهم وتقاعدهم وتأديبهم. يضع المجلس الأعلى للسلطة القضائية،بمبادرة منه، تقارير حول وضعية القضاء ومنظومة العدالة، ويصدر التوصيات الملائمة بشأنها.
يصدر المجلس الأعلى للسلطة القضائية، بطلب من الملك أو الحكومة أو البرلمان، آراء مفصلة حول كل مسألة تتعلق بسير القضاء مع مراعاة مبدأ فصل السلط."
لائحةالمراجع :
× نزهة مسافر، قراءة في مشروع قانون المجلس الأعلى للسلطة القضائية.
× أنس سعدون: مقالة حول ملاحظات نادي قضاة المغرب بشأن المجلس الأعلى للسلطة القضائية بالمغرب.
× ميثاق إصلاح منظومة العدالة الصادر بتاريخ يوليو 2013.
× مشروع قانون تنظيمي رقم 100.13 يتعلق بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية، الأمانة العامة للحكومة (المطبعة الرسمية)-الرباط 2014
× نادي قضاة المغرب مذكرة حول القانون التنظيمي المتعلق بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية الصادرة بتاريخ 23 مارس 2013.
إعداد الأساتذة:شيماء الرغيوي الحمزاوي+ سمية الحناش+هاجر لحكيم+ رضوان غريب+علي بن عيسى+ محمد المحتوشي+سفيان الفرخاني المصوصي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق