المحاكم العادية والمتخصصة في القانون المغربي(التنظيم القضائي)
في إطار تكريس دولة الحق والقانون، بادر المشرع المغربي إلى تحيين المنظومة القانونية للتنظيم القضائي للمملكة من أجل جعل المحاكم مسايرة للتطورات الحاصلة في جل الميادين، ومنسجمة مع المفهوم الجديد للسلطة القضائية ألا وهو القضاء
في خدمة المواطن، وذلك من خلال عدالة مستقلة)( ومتميزة بقربها من المتقاضين، وببساطة مساطرها وسرعتها، ونزاهة أحكامها، وحداثة هياكلها، وكفاءة وتجرد قضاتها، وتحفيزها للتنمية، والتزامها بسيادة القانون، في إحقاق الحقوق ورفع المظالم)(.
في خدمة المواطن، وذلك من خلال عدالة مستقلة)( ومتميزة بقربها من المتقاضين، وببساطة مساطرها وسرعتها، ونزاهة أحكامها، وحداثة هياكلها، وكفاءة وتجرد قضاتها، وتحفيزها للتنمية، والتزامها بسيادة القانون، في إحقاق الحقوق ورفع المظالم)(.
غير أن تأسيس المحاكم ولئن كان يشكل دعامة أساسية في سبيل ترسيخ دولة الحق والمؤسسات باعتبار العدل أساس الملك، فإن تفعيل المقتضيات الدستورية الجديدة يقتضي من القضاء تحقيق الأمن القضائي من خلال التطبيق العادل للقانون عبر حكامة قضائية جيدة تعتمد على آليات المقاربة التشاركية، ويجعل السلطة القضائية مؤتمنة على صيانة الحقوق والحريات الدستورية في ظل دولة الحق والمؤسسات، ومجتمع يؤمن بقيم المواطنة وربط المسؤولية بالمحاسبة لمكافحة الفساد وحماية المال العام.
وإذا كانت المحاكم العادية في المغرب هي المحاكم الابتدائية التي تبت كجهة ابتدائية فقط كقاعدة عامة، وتبت كجهة ابتدائية واستئنافية بصفة استثنائية ، فإن السؤال يطرح حول ماهية الاختصاص النوعي لهذا القضاء العادي؟ وما هي الحدود الفاصلة بين اختصاص المحاكم العادية والمحاكم المتخصصة؟
وجوابا على ذلك سوف نعرض للمحاكم العادية في محور أول، ثم نتناول المحاكم المتخصصة في محور ثاني.
المحور الأول: المحاكم العادية
الفقرة الأولى:المحاكم الإبتدائية:
نظم الظهير الشريف بمثابة قانون رقم 1.74.338 بتاريخ 15 يوليوز 1974 المحدد للتنظيم القضائي للمملكة في فصله الثاني المحاكم الإبتدائية.(غير –الفقرة الثانية- بمقتضى الظهير الشريف رقم 205-93-1 صادر في 22 من ربيع الاول 1414 (10 سبتمبر 1993)- المادة الاولى – وغير- الفقرة الثانية- بمقتضى ظهير شريف رقم 118-98-1 صادر في 30 من جمادى الاولى 1419 (22 سبتمبر 1998) بتنفيذ القانون رقم 98-6 –مادة فريدة- وغير وتمم بمقتضى الظهير الشريف رقم 24-04-1 صادر في 12 من ذي الحجة 1424 (3فبراير 2004) –مادة فريدة-
1- .التنظيم :
تتكون المحاكم الإبتدائية من:
رئيس ونواب رئيس وقضاة ؛
نيابة عامة تتكون من وكيل للملك ونائب أو عدة نواب؛
كتابة الضبط؛
كتابة النيابة العامة.
يمكن تقسيم هذه المحاكم بحسب نوعية القضايا التي تختص بالنظر فيها إلى أقسام الأسرة وغرف مدنية، وغرف تجارية وعقارية واجتماعية وزجرية.
تنظر أقسام قضاء الأسرة في قضايا الأحوال الشخصية والميراث والحالة المدنية وشؤون التوثيق والقاصرين والكفالة وكل ما له علاقة برعاية وحماية الأسرة.
يمكن لكل غرفة أن تبحث وتحكم في كل القضايا المعروضة على المحكمة كيفما كان نوعها باستثناء ما يتعلق بأقسام الأسرة. كما يمكن تكليف قاض أو أكثر من قضاة هذه المحاكم بمزاولة مهامهم بصفة قارة في أماكن توجد داخل نفوذها وتحدد بقرار لوزير العدل.
2-الاختصاصات:
تختص المحاكم الابتدائية بالنظر في جميع القضايا مالم ينص القانون صراحة على إسناد الاختصاص لمحكمة أخرى.
ويعتبر هذا الاختصاص اختصاصا عاما يمتد ليشمل كل القضايا المدنية والعقارية والجنائية والاجتماعية. وتدخل كل المسائل المرتبطة بالأحوال الشخصية والعائلية والإرث أيضا في اختصاص المحاكم الابتدائية سواء تعلق الأمر بالمواطنين المسلمين أو الإسرائيليين أو الأجانب مع مراعاة الاختصاص النوعي المقرر لفائدة أقسام قضاء الأسرة الذي اعتبره المشرع المغربي من النظام العام بمقتضى التعديل الذي طال ظهير التنظيم القضائي بتاريخ 5/2/2004.
وتختص المحاكم الابتدائية في القضايا إما ابتدائيا وانتهائيا أو ابتدائيا مع حق الاستئناف طبقا للشروط المحددة في قانوني المسطرة المدنية والجنائية أو النصوص الخاصة عند الاقتضاء.
في القضايا المدنية تختص المحاكم الابتدائية ابتدائيا وانتهائيا بالنظر إلى غاية ثلاثة آلاف درهم مع حفظ حق الإستئناف في الطلبات التي تتجاوز هذا المبلغ. على أنه يمكن لحكمها أن يكون موضوع نقض أمام المجلس الأعلى، وتبت المحكمة فقط ابتدائيا إذا كان القدر المتنازع عليه يفوق هذا القدر.
وتجدر الإشارة إلى أن اليهود المغاربة يخضعون في أحوالهم الشخصية إلى قواعد الأحوال الشخصية العبرية المغربية.
ويتولى قضاة عبريون بالمحاكم النظر في هذا النوع من القضايا.
وجدير بالإشارة إلى أنه تم إحداث غرف الاستئنافات بالمحاكم الابتدائية وأنيط بها البت كدرجة ثانية استينافية بالنظر في الاستينافات المرفوعة ضد الأحكام الصادرة ابتدائيا عن المحاكم الابتدائية في إطار البند الأول من الفصل 19 من ق.م.م أي في القضايا التي تختص بها المحكمة الابتدائية ابتدائيا إلى غاية 20.000,00 درهما.
كما تختص هذه الغرف بالنظر في الاستئنافات المرفوعة ضد الأحكام الصادرة ابتدائيا عن المحاكم الابتدائية في قضايا المخالفات المشار إليها في المادة 396 من قانون المسطرة الجنائية وفي القضايا الجنحية التي لا تتجاوز عقوبتها سنتين حبسا وغرامة وإحدى هاتين العقوبتين فقط.
كما تختص غرفة الاستئنافات للأحداث لدى المحكمة الابتدائية بالنظر في الاستئنافات المرفوعة ضد الأحكام الصادرة عن المحكمة الابتدائية في قضايا الأحداث إذا كانت العقوبة المقرر لها تعادل أو تقل عن سنتين حبسا وغرامة أو إحدى هاتين العقوبتين فقط.
الفقرة الثانية:محاكم الإستئناف:
ينص القانون الصادر بتاريخ 15 يوليوز 1974 المتعلق بالتنظيم القضائي للمملكة على تنظيم وتأليف محاكم الإستئناف.
1-.التنظيم :
تتكون محاكم الاستئناف من عدة غرف متخصصة ، من بينها غرفة الأحوال الشخصية والميراث والغرفة الجنائية.
وتتكون أيضا من نيابة عامة تضم وكيلا عاما للملك ونوابه العامين وقاض أو عدة قضاة مكلفين بالتحقيق وقاض أو عدة قضاة للأحداث وكتابة ضبط لكل من الرئاسة والنيابة العامة.
تعقد الجلسات في جميع القضايا وتصدر القرارات عن طريق هيئة مكونة من ثلاثة مستشارين يحتفظ بها بالنظر لأهمية المهام الموكولة إليهم.
وبالنظر إلى خطورة القضايا المعروضة عليها تتألف الغرفة الجنائية من خمس قضاة : رئيس غرفة وأربعة مستشارين.
2.الاختصاصات:
تقوم المحاكم الاستئنافية بصفتها محكمة من درجة ثانية للتقاضي بدراسة القضايا التي تم البت فيها ابتدائيا من قبل المحاكم الابتدائية للمرة الثانية . وبذلك تنظر استئنافيا في الأحكام التي تصدر عن هذه المحاكم أو عن رؤسائها.
إن التأليف المتميز للغرف الجنائية بمحاكم الاستئناف يؤهلها للبت في الجرائم ابتدائيا وانتهائيا.
الفقرة الثالثة:محكمة النقض:
أحدثت محكمة النقض غداة الاستقلال بظهير رقم 1.57.223 بتاريخ ربيع الثاني 1377 الموافق ل 27 سبتمبر 1957وكانت تسمى سابقا المجلس الأعلى. وهي توجد في أعلى الهرم القضائي وتشرف على جميع محاكم الموضوع بالمملكة. أما تنظيمها واختصاصها فيحددهما قانون 15 يوليوز 1974 المحدد للتنظيم القضائي للمملكة وكذا قانون المسطرة المدنية وبعض مقتضيات قانون المسطرة الجنائية و العدل العسكري.
1.- تنظيم محكمة النقض:
يترأس محكمة النقض رئيس أول. وتمثل النيابة العامة فيه بوكيل عام للملك يساعده المحامون العامون.
تشتمل محكمة النقض على ست غرف : غرفة مدنية (تسمى الغرفة الأولى) ، وغرفة للأحوال الشخصية والميراث وغرفة تجارية وغرفة إدارية وغرفة اجتماعية وغرفة جنائية. يرأس كل غرفة رئيس غرفة.
ويمكن أن تقسم هذه الغرف إلى أقسام.
تبت محكمة النقض في إطار قضاء جماعي ، فالجلسات تعقد وتصدر القرارات من طرف خمس مستشارين . وفي بعض الحالات تعزز هذه الصفة الجماعية ، فتصدر الأحكام بواسطة غرفتين مجتمعتين وفي بعض القضايا تبت جميع الغرف مجتمعة في جلسة عامة.
2.- الاختصاصات: :
إن اختصاصات محكمة النقض كثيرة ومتنوعة . وقد حدد القانون - مع ذلك - دوره في مراقبة المسائل المتعلقة بالقانون فقط ، فهو يراقب شرعية القرارات التي تصدرها محاكم الموضوع ويضمن بذلك توحيد الاجتهاد القضائي.
وبهذه الصفة تنظر محكمة النقض في القضايا التالية:
• الطعون بالنقض ضد الأحكام الانتهائية التي تصدرها جميع محاكم المملكة؛
• الطعون المقدمة ضد القرارات التي يتجاوز بواسطتها القضاة سلطاتهم؛
• البت في تنازع الاختصاص بين محاكم لا توجد محكمة أعلى درجة مشتركة بينها غير محكمة النقض؛
• مخاصمة القضاة والمحاكم غير محكمة النقض؛
• الإحالة من أجل التشكك المشروع؛
• الإحالة من أجل الأمن العمومي أو لصالح حسن سير العدالة؛
• اللجوء ابتدائيا وانتهائيا إلى طلب الإلغاء من أجل الشطط في استعمال السلطة ضد المقررات التنظيمية أو الفردية للوزير الأول ، والطعن في قرارات السلطات الإدارية التي يتعدى نطاق تنفيذها دائرة اختصاص المحكمة الإدارية؛
ومن جهة أخرى تبت محكمة النقض بصفته محكمة موضوع في:
القضايا الجنائية : مسطرة المراجعة تسمح له بإصلاح خطأ قضائي ارتكب على حق شخص وقعت إدانته ظلما من أجل جريمة.
- فأصبحت بذلك غرف الاستئنافات بالمحاكم الابتدائية تبت كدرجة ثانية استينافية بالنظر في الاستينافات المرفوعة ضد الأحكام الصادرة ابتدائيا عن المحاكم الابتدائية في إطار البند الأول من الفصل 19 من ق.م.م أي في القضايا التي تختص بها المحكمة الابتدائية ابتدائيا إلى غاية 20.000,00 درهما.
كما تختص هذه الغرف بالنظر في الاستئنافات المرفوعة ضد الأحكام الصادرة ابتدائيا عن المحاكم الابتدائية في قضايا المخالفات المشار إليها في المادة 396 من قانون المسطرة الجنائية وفي القضايا الجنحية التي لا تتجاوز عقوبتها سنتين حبسا وغرامة وإحدى هاتين العقوبتين فقط.
كما تختص غرفة الاستئنافات للأحداث لدى المحكمة الابتدائية بالنظر في الاستئنافات المرفوعة ضد الأحكام الصادرة عن المحكمة الابتدائية في قضايا الأحداث إذا كانت العقوبة المقرر لها تعادل أو تقل عن سنتين حبسا وغرامة أو إحدى هاتين العقوبتين.
المحـور الثاني.: المحاكم والأقسام المتخصصة
المقصود بالمحاكم المتخصصة المحاكم الإدارية، المحاكم التجارية، أقسام قضاء الأسرة، أقسام قضاء القرب، والأقسام المتخصصة في الجرائم المالية. أما المحاكم المصنفة فيقصد بها المحاكم المدنية والاجتماعية والزجرية التي أنشئت حديثا بالدار البيضاء في سنة 2011 كتجربة أولية قابلة للتعميم بعد تقييم نتائجها على مستوى الواقع.
الفقــرة الأولــى:المحاكــم الإداريــة
يحتل القضاء الإداري مكانة هامة داخل التنظيم القضائي، بحيث يلعب دورا بارزا في تحقيق العدالة، ومن هذا المنطلق يمكن القول أن القضاء الإداري يختلف عن القضاء المدني من خلال تميز قواعده الموضوعية والمسطرية. ذلك أن القضاء الإداري بدوره الإنشائي للقاعدة القانونية وتطبيقها على المنازعات المعروضة عليه حسبما تقتضيه المصلحة لا سيما في حالة انعدام النص، يساهم لا محالة في تحقيق احتياجات المرافق العامة وحسن تسييرها، ويضمن حماية الحقوق والحريات الفردية والجماعية .
كما أن القضاء الإداري المغربي الذي تأسست قواعده منذ سنة 1913 وترسخت بعد الاستقلال بإنشاء المجلس الأعلى – محكمة النقض حاليا- سنة 1957، وإصلاح النظام القضائي سنة 1974 وإحداث المحاكم الإدارية سنة 1994 يجعلنا نعتقد أن النظام القضائي المغربي عرف الازدواجية في جوهره كما هو معمول به في فرنسا.()
وهكذا فإن المحاكم الإدارية بالمغرب لم تتوان منذ نشأتها في إعطاء صورة إيجابية للمواطنين عن العدالة الإدارية، إذ منحت خدمات مثلى للمتقاضين في نزاعاتهم مع الإدارة، كما أنها مارست وظيفة إيجابية جديرة بالاعتبار من خلال تقويم اختلالات الإدارة، والإرتقاء بثقافة الديمقراطية تكريسا لدولة الحق والقانون، وتفسير القوانين الوطنية واستكمالها بالاجتهاد في التفسير لما غمض أو سد ثغرات ما نقص خصوصا بالنسبة للحقوق الأساسية والحريات الفردية، وتحسين علاقة الإدارة بموظفيها وحماية الموظف من الشطط وخلق جو ملائم لاستقراره يدفعه لخدمة الشأن العام دون خوف من الانتقال، من خلال اشتراط عدم التعسف والانحراف في استعمال السلطة والمساس بمبدأ المشروعية أثناء ممارسة الإدارة لسلطتها التقديرية.
ولعل من بين مظاهر العدالة الإدارية، إلغاء القضاء الإداري لقرار نقل الموظف الذي اتخذته الإدارة بهدف تهميشه ومعاقبته،، كما ألغى قرار الإدارة بعدم ترقية موظف المتخذ كوسيلة وبشكل من أشكال العقاب بالقياس مع موظفين أقل درجة منه حصلوا على الترقية لمخالفته لمبدأ دستوري وهو المساواة أمام الفرص المتاحة. كما أخضعت الغرفة الإدارية بمحكمة النقض لرقابتها تدرج العقوبة مع الفعل المرتكب من التوبيخ إلى العزل كما هو منصوص عليه في قانون الوظيفة العمومية ( الفصل 66 ) في إطار الملائمة حسب جسامة وخطورة المخالفة. ناهيك عن اعتبار القضاء الإداري لعدم تنفيذ الإدارة للأحكام القضائية ورفضها تسوية الموظف شططا في استعمال السلطة يمكن أن يؤدي في بعض الحالات إلى تطبيق الغرامات التهديدية ضد الإدارة. ولتثبيت دولة الحق والقانون وحماية المواطن من شطط سلطة الإدارة قضى بضمان أحد حقوق الإنسان الرئيسية المتمثلة في حق التنقل بحرية وذلك من خلال إلغاءه لقرار رفض أو عدم تجديد جواز السفر بالرغم من تقديم كل الوثائق والمستندات اللازمة.
وفي إطار مراقبة القضاء لعلاقة الإدارة بالمواطنين اعتبر القضاء الإداري أن صفة المنفعة العامة لنزع الملكية والاحتلال المؤقت تتعارض وعنصر المضاربة عندما تلجأ الإدارة إلى نزع الملكية من أجل تجزئة الأراضي وبيعها بمبالغ لا تتناسب مع تلك الفترة المقترحة على المالكين، كما اعتبر أيضا أن الإدارة مرتكبة لشطط في استعمال السلطة عندما قررت التراجع عن رخصة لإنجاز بناء سلمت لمواطن يفترض أنه احترم قبل تسليمها كل القوانين والتنظيمات الجاري بها العمل، أو قامت الإدارة بتسليم رخصة غير قانونية (تحويل سكنى إلى مقهى في حي سكني ). كما اعتبرت الغرفة الإدارية أموال الإدارة المخصصة لتعويض الأملاك المنزوعة ملكيتها والتي توجد في حوزة الإدارة أموالا ذات صفة خصوصية يمكن حجزها ولا يجوز معارضة ذلك بعدم قابليتها للحجز باعتبارها أموالا عمومية مرصودة لأمور تهم سير المرفق العام.
ذلك أن مبادئ العدل والإنصاف تقضي بأنه لا يمكن لأي مسؤول أن يكون خصما وحكما، أي أن يتولى مهمة البحث وتهيئ الحجج ثم اتخاذ القرار لمساءلة الموظف أو المواطن في نفس الوقت. فانعدام الفصل بين توجيه التهمة واتخاذ القرار هو الذي يحتم على القضاء الإداري أن يجتهد أكثر لكي يحافظ على ذلك التوازن الطبيعي بين حقوق الأفراد والجماعات وحقوق الإدارة في تسيير المرافق العامة وخدمته.
وبذلك، يمكن القول أن هناك اقتناعا بالإجماع حول نجاح تجربة المحاكم الإدارية، بالنظر إلى حصيلتها، ومستوى وطبيعة أحكامها، بالإضافة إلى مساهمتها في بناء تحقيق الأمن القضائي وتعزيز ثقة المواطن في عدالة بلده تجسيدا لروح مبدأ تقريب القضاء من المتقاضين، وكل ذلك يستلزم وبإلحاح دعم هذا النوع من القضاء العادي المتخصص وإعادة صياغة مقتضيات التنظيم القضائي بما يخدم هذا الهدف السامي وربط وملائمة الخريطة القضائية مع الخريطة الإدارية للمملكة.
لذلك يجب التفكير في مراجعة تلك الخريطة القضائية وذلك بالزيادة في عدد المحاكم وإعادة النظر في توزيعها الجغرافي في إطار توجهات الجهوية واللا تمركز التي أصبحت تفرض إعادة ضبط التنظيم الترابي للمحاكم وكذا اختصاصها المحلي، وذلك مراعاة للأبعاد الجغرافية والديمغرافية والاقتصادية، ومتطلبات فعالية الإدارة القضائية وتسهيل الولوج إلى القانون والعدالة وتحقيق النجاعة القضائية، وكذلك من أجل التوفيق بين ضمان هيكلة مُحكمة لقضاء إداري قوي وفعال فوق مجموع التراب الوطني، وضمان قضاء قريب ليس فقط من المتقاضين بل ومن الواقع الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والمحلي. وهذا ما يجسد حرص المشرع المغربي على الانسجام في إعادة صياغة الخريطة القضائية مع مشروع الجهوية المتقدمة، من خلال بلورة معايير عقلانية وواقعية لمنظومة جهوية جديدة، واعتماد مقاربة أكثر تطويرا وتحديثا للتنظيم القضائي للمملكة تتجاوب مع هذا السياق، بما يحقق الانسجام مع الأهداف الجوهرية للجهوية الموسعة باعتبارها توجها حاسما لتطوير وتحديث هياكل الدولة ومرافقها العمومية وفي مقدمتها مرفق القضاء.
وفي الختام نخلص إلى أنه، إذا كانت الأسباب التي تحكمت في إحداث قضاء إداري متخصص، ترتبط في مجملها بقضيه إعادة النظر في العلاقة التي كانت تحكم الدولة بمواطنيها تدعيما لدولة القانون، وذلك من خلال تأمين حقوق الأفراد من كل تجاوز أو تعسف محتمل في استعمال السلطة ، فإن القضاء الإداري لم يذهب إلى حد الشطط في حماية حقوق الأفراد والتضحية بحقوق الإدارة، بل إنه عمل دوما على الموازنة بين المصلحتين العامة والخاصة وفي حالة التعارض بينهما اهتدى القضاء الإداري ، باعتبار دوره الإنشائي للمبادئ القانونية، إلى ترجيح الأولى على الثانية، وجعلها فوق كل اعتبار.
الفقــرة الثانيــة:المحاكــم التجاريــة
لم يكن إحداث المحاكم التجارية في المغرب من باب تحصييل حاصل، بل جاء نتيجة إفرازات التحولات الدولية والداخلية التي ميزت العقد الأخير من القرن الماضي. فالعولمة ذات التوجه الليبرالي تعد تعبيرا عن وعي وإرادة المؤسسات بما فيها الحكومات والبرلمانات الموقعة على القوانين التي طبقت السياسة الليبرالية الجديدة وما نتج عن ذلك من إلغاء الحدود والحواجز أمام حركات تنقل السلع ورؤوس الأموال، وانتهى ذلك باتفاقية التجارة العالمية "الڭات"، التي تولت توقيع العقوبات على الدول المخالفة لبنود الاتفاقية ، إلا أن انفتاح هذه الاقتصادات اعترضته عدة إشكاليات من بينها تنازع القوانين الداخلية والمعاهدات التجارية الدولية ، مما استدعى إعادة النظر في التشريعات الداخلية وهذا ما خلص إليه مؤتمر التجارة العالمية المنعقد بمراكش سنة 1994.
وتجدر الإشارة إلى أن دول العالم خاصة " النامية" منها صارت تطبق سياسة الانفتاح تحت تأثير ضغوط منظمات دولية ،صندوق النقد الدولي، والشركات المتعددة الجنسيات، مما اضطرها أيضا لإحداث إطار قانوني متكامل من شأنه تفعيل تلك الاتفاقيات التجارية)( .
ومن جهة أخرى، وفي إطار النظام الليبرالي اتخذ المغرب تدابير همت إصلاح وتحيين بعض القوانين حيث أصلح النظام المالي والجنائي والاقتصادي فأصدر ميثاق الاستثمارات سنة1995 ، ومدونة التجارة، وقانون رقم 53-95 الصادر بتنفيده الظهير المؤرخ في 12 فبراير 1997 الذي يعتبر بحق تعزيزا حقيقيا لتجربة القضاء المتخصص بعد محاولة لم يكتب لها الاستمرار مع القضاء الاجتماعي في 1974.
ويأتي قانون إنشاء المحاكم التجارية بعد انتفاض
تشريعية مغربية بدأت بتحديث منظومة قانون الأعمال عموما فكان لزاما أن يوازي هذا التطور في مجال القوانين الموضوعية للأعمال تطور آخر على مستوى القوانين القضائية والإجرائية للأعمال. وتعتبر المحاكم التجارية محاكم متخصصة يحدد اختصاصها بنص خاص في قضايا معينة وتقابل هذه الولاية المحددة للمحاكم التجارية الولاية العامة للمحاكم الابتدائية. أي ما معناه أن المشرع المغربي لم يتبنى المعيار القيمي في تحديد اختصاصها، وإنما تبنى المعيار النوعي لتوزيع الاختصاص بينها وبين غيرها من المحاكم، فالتخصص إذن يعتبر أساس وجود المحاكم التجارية والمعيار المرتكز عليه في تحديد اختصاصها النوعي. لذلك قام المشرع المغربي بوضع لائحة بالمنازعات التي تدخل في اختصاص المحاكم التجارية، وذلك من خلال المادة الخامسة من القانون رقم 95-53.
ويمكن رصد أهم ما جاء به القانون المحدث للمحاكم التجارية كما يلي :
- إنشاء محاكم تجارية ومحاكم استئناف تجارية متخصصة (المادة 1 ) من القانون المحاكم التجارية
- جمع الاختصاص المتعلق بالمادة التجارية وإسناده للمحاكم التجارية المحدثة (المادة 5) من نفس القانون
- رفع الحد القيمي الدي يبدأ فيه اختصاصها الابتدائي إلى ما يتجاوز 20.000درهم (المادة 6 كما عدلت بمقتضى القانون رقم18.02 الصادر بتنفيده الظهير المؤرخ في 13 يونيو 2002).
- تكريس القضاء الجماعي والمسطرة الكتابية بإشراف محام مسجل بإحدى هيئات المحامين بالمغرب المادة 4و13 وذلك على الرغم من خصوصية القضايا التجارية.
- تقييد المسطرة بآجال صارمة وقصيرة توخيا لسرعة البت في القضايا منها أجل الاستئناف الذي أصبح 15 يوما من تاريخ التبليغ بدل أجل 30 المنصوص عليه في قانون المسطرة المدنية المواد 8-14-16-17-18-23.
- توسيع نطاق تدخل رئيس المحكمة التجارية في إطار المستعجلات بالرغم من وجود منازعات جدية بإعطائه سلطة الأمر بكل التدابير التحفظية أو بإرجاع الحالة إلى ما كانت عليه لدرء ضرر حال أو لوضع حد لاضطراب ثبت جليا انه غير مشروع ( المادة 21).
- تفعيل مسطرة الأمر بالأداء بجعل الاستئناف وجعله لا يوقفان تنفيد الأمر بالأداء الصادر عن رئيس المحكمة المادة 22.
- إحداث قاض مكلف بمتابعة إجراءات التنفيد يعينه رئيس المحكمة التجارية باقتراح من الجمعية العمومية.
وبعد هذه التوطئة، فإن التساؤل يثار حول الغايات التي كان المشرع يروم تحقيقها من خلال إحداثه لهذا النوع من المحاكم المتخصصة؟
أولا : الأهــداف الاقتصاديــة.
1 – حمايـة الحيـاة الاقتصاديـة
للمحاكم التجارية دور فعال وأساسي في الحماية الاقتصادية من كافة الاختلالات التي قد تعتريها ، وذلك عن طريق تطبيق أحكام القوانين التجارية والقوانين ذات الصلة بالمادة التجارية من قبيل السجل التجاري ومسلك الدفاتر التجارية ونظام صعوبة المقاولة والحماية الجنائية للشيك وباقي الأوراق المالية ،وفرض الضرائب ،ويتجلى دور القضاء في مجال تدخله في حالة نظام معالجة صعوبات المقاولات هذا بالإضافة إلى منع التهريب والمساهمة في تطوير وضبط قطاع الأعمال والتجارة بتطبيق المبادئ التي تشجع على التنمية وخاصة المنافسة المشروعة والإنصاف والشفافية في المعاملات التجارية ضمانا لاستمرارية المقاولة وحماية للدائنين.
2- المساهمـة في التنميـة الاقتصاديـة
تعتبر المحاكم التجارية الجهاز القضائي المؤهل لرفع التحديات الداخلية وتحقيق التنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية وبذلك فقد صارت تلك المحاكم فاعلا اقتصاديا أساسيا مندمجا في عملية التنمية لأن القضاء المستقل النزيه و الفعال هو الكفيل بخلق الثقة وتشجيع الاستثمارات ووضع حد للانغلاق وغياب الثقة. لذا يمكن القول ، لا تنمية بدون استثمار، ولا استثمار بدون ثقة، ولا ثقة بدون قضاء عادل من شأنه خلق مناخ من الطمأنينة لدى المستثمر المغربي والأجنبي.
3: سرعة البث في الدعاوي المتعلقة بالقضايا التجارية :
إن تراكم الملفات وطول الإجراءات المسطرية بالمحاكم ذات الولاية العامة (المحاكم الابتدائية) يتنافى مع قضايا الأعمال الجارية التي لا تحتمل الانتظار بقدر ما تستدعي السرعة. ولا يتحقق ذلك إلا بوجود قضاة أكفاء ونزهاء، إلى جانب دقة ومرونة وتبسيط الإجراءات المسطرية ، وهذا ما كرسه القانون المحدث للمحاكم التجارية حينما أوجب على رئيس المحكمة التجارية أن يعين قاضيا مكلفا بالقضية يوم تسجيل القضية أو في اليوم الموالى على الأكثر ، وشدد على ألا يقع النطق بالحكم إلا بعد تحريره ، تلافيا لكل تراخ قد يقع بعد النطق بالحكم ، وجعل أجل استئناف الأحكام الابتدائية محددا في 15 يوما من تاريخ تبلغيها، وأوجب على كتابة ضبط المحكمة التجارية أن تبعث بالملف إلى محكمة الاستئناف داخل اجل 15 يوما كآخر اجل من تاريخ تقديم مقال الاستئناف .
ثانيــا : الأهــداف الاجتماعيــة .
1 - حماية الحقوق الأساسية للمواطنين:
تهدف المحاكم التجارية إلى الحفاظ على استقرار المعاملات التجارية وذلك من خلال حماية حقوق المواطنين في الميدان التجاري وضمان حقوق التجار سواء كانوا أشخاصا طبيعيين أو معنويين، وصيانة مصالح مختلف الفاعلين الاقتصاديين من عمال وأرباب العمل وذلك ببته في النزاعات المرتبطة أساسا بالأعمال التجارية على سبيل المثال لا الحصر، إضافة إلى حماية المتعاملين المدنيين بالشيك.
2 - تخفيف العبء عن المحاكم العادية .
لقد كان لتراكم الملفات والقضايا المعروضة على المحاكم الابتدائية - والتي كانت تبت في القضايا المدنية و الأحوال الشخصية والميراث والقضايا التجارية والاجتماعية – أثر مباشر على بطء الإجراءات وعدم تجهيز الملفات مما شكل عرقلة واضحة في وجه المواطنين و المستثمرين سواء كانوا مغاربة أو أجانب، الشيء الذي دفع إلى التفكير في تخفيف العبء عنها بإقامة قضاء نزيه وعادل ومتخصص تكون له انعكاسات إيجابية على الاستثمار و التشغيل، وبذلك تظهر جليا أهمية المحاكم التجارية في رفع التحديات الخارجية المرتبطة بربح رهان التنافسية وكسب رهان المستثمرينوإقامة السلم الاجتماعي الذي لا يتأتى إلا بإقرار هذه المحاكم لقواعد ومبادئ القوانين التجارية الجاري بها العمل .
وإذا كانت مدونة التجارة، وقوانين الشركات، وكذا القانون المحدث للمحاكم التجارية، تسعى كلها إلى توفير الحماية اللازمة في مجال المال والأعمال، فإنها قد أضفت على ذلك صبغة الاستعجال من خلال جوازها بتدخل قاضي المستعجلات بصفة مباشرة أو غير مباشرة في إدارة الشركة بناءا على طلب من له مصلحة، وذلك إيمانا من المشرع بأن الدور الإيجابي لرئيس المحكمة التجارية في حياة الشركة يبرز بجلاء حينما تعيش الشركات صعوبات مالية، حيث تتحرك اختصاصاته في نطاق مسطرة الوقاية من الصعوبات طبقا للكتاب الثالث من مدونة التجارة. ومتى وجدت خلافات خطيرة بين الشركات من شأنها أن تعصف بحياة المقاولة، كانت مؤسسة القضاء مسعفة بما توفره من إجراءات تحفظية فعالة سعيا وراء توفير الحماية العاجلة للحقوق.
ولا يسعنا في هذا الإطار، إلا أن ننوه بهذا المنحى الذي سلكه المشرع المغربي في إحداث محاكم تجارية متخصصة، ومؤسسة مستقلة للقضاء الإستعجالي في المادة التجارية، مراعاة منه للأهمية البالغة التي يحتلها القضاء المستعجل ضمن مؤسسة القضاء عموما، كما أن الحاجة إلى ضرورة إحداثه أضحت مؤكدة وملحة، خصوصا في هذا العصر الذي اتسم بالتطور والتقدم في جميع المجالات التي تهم حياة الإنسان والمجتمع.
وبذلك يمكن القول أن قواعد القضاء التجاري بنوعيه الموضوعي والاستعجالي قد أصبحت راسخة ومستقلة وقابلة لاستيعاب ما يطرأ من حالات وما يستجد من وضعيات يتعين البت فيها على وجه السرعة تمشيا مع الظروف التي أفرزت هذا النوع من المحاكم ، وتجاوبا مع الأهداف المتوخاة من القرارات الصادرة في المادة التجارية، الأمر الذي يحقق لا محالة النتائج والمرامي المقصودة من سن هذا القضاء المتخصص، ومن فلسفة تشريعه ويخلق نوعا من الثقة في مجال المال والأعمال.
لكن، السؤال الذي يطرح تباعا يتعلق بمآل المحاكم التجارية بعد انتهاء أشغال الهيئة العليا للحوار الشامل والعميق لإصلاح منظومة العدالة في المغرب؟
بالرغم من النقاش حول المحاكم التجارية، فهناك شبه إجماع وطني حول ضرورة الاحتفاظ بهذا النوع من المحاكم، وإضافة محكمة استئناف تجارية في طنجة، والدعوة إلى إحداث غرف متخصصة بالمحاكم العادية في المناطق التي لا توجد فيها محاكم تجارية ، وذلك من أجل تحقيق مبادئ سامية تتجلى في العدالة للجميع، والمساواة بين المتقاضين، والعدالة السريعة المتبصرة، وتقريب القضاء من المواطن باعتبارها حقوقا مكفولة له دستوريا.
الفقــرة الثالثــة :أقســام قضــاء الأســرة:
أصدر المشرع المغربي قانونا جديدا للأسرة بعد الجدل الحاد الذي أثاره هذا الموضوع بين أنصار الاتجاه المحافظ وأنصار الاتجاه الحداثي ، وقد أجمع الجميع على أنه قانون متميز، وأنه نجح في التوفيق بين الاتجاهين، بحيث اعتبر في مضمونه مسايرا لواقع العصر، ومتوافقا مع الاتفاقيات الدولية، وفي عمقه مستمدا من الشريعة الإسلامية ، ومن الأمور التي وقع عليها الإجماع أيضا نجد ضرورة وجود قضاء متخصص من أجل ضمان التطبيق السليم لهذا القانون، فالجميع ربط نجاح هذا القانون بوجود قضاء فعال وعادل. لذلك تدخل المشرع من خلال الفصل الثاني من القانون المتعلق بالتنظيم القضائي بعد تغييره وتتميمه بمقتضى ظهير 1.04.24 الذي نص على ما يلي: " تنظر أقسام قضاء الأسرة في قضايا الأحوال الشخصية والميراث والحالة المدنية وشؤون التوثيق والقاصرين والكفالة وكل ما له علاقة برعاية وحماية الأسرة ".
هذه المادة حددت بصفة حصرية اختصاص أقسام قضاء الأسرة، والمشرع عندما استعمل كلمة «أقسام قضاء الأسرة» فهو اعتبر هذه الجهة القضائية قسما مستقلا بكل ما تعني كلمة الاستقلال ويسعى هذا التوجه، دون شك، في أفق إحداث محاكم مستقلة تختص في النظر في القضايا المحددة في الفصل الثاني المذكور على غرار إنشاء المحاكم المختصة الإدارية منها والتجارية.
وينص أيضا الفصل الثاني المنظم للمحاكم الابتدائية على ما يلي:
" يمكن لكل غرفة أن تبحث وتحكم في كل القضايا المعروضة على المحكمة كيفما كان نوعها باستثناء ما يتعلق بأقسام قضاء الأسرة ".
وبمقتضى هذا النص، فإن اختصاص البحث والحكم في القضايا المتعلقة بما هو محدد في الفقرة التي سبقتها يبقى لأقسام قضاء الأسرة دون سواها، وبذلك كرست هذه الفقرة استقلالية اختصاص قضاء الأسرة عن باقي اختصاص المحاكم الابتدائية. فما هي إذن الغاية من إحداث هذه الأقسام المتخصصة؟
وجوابا عن ذلك نجمل الغايات المذكورة فيما يلي:
أولا : سرعـة البـت فـي القضايـا:
من أهم المبادئ التـي نقف عليها بمجرد استقراء المدونة ، نجد حرص المشرع على الإسراع فـي البت، و ذلك من خلال وضع أجال محددة يجب على القضاء احترامها.
فالمادة 45 من المدونة أوجبت على الزوج إيداع المبلغ الذي تحدده المحكمة لفائدة الزوجـة والأولاد داخل أجل 7 أيام و إلا اعتبر الزوج متراجعا عن طلب الإذن بالتعدد، و نجد أيضا المادة 83 التي تلزم الزوج بإيداع المبلغ الذي تحدده المحكمة داخل أجل أقصاه ثلاثون يوما كمستحقات للزوجة وللأطفال و إلا اعتبر متراجعا عن رغبته في الطلاق.
كما نجد المادة 97 من مدونة الأسرة التي تنص على أن الفصل في دعوى الشقاق يجب أن يتم داخل أجل لا يتجاوز ستة أشهر من تاريخ تقديم الطلب.
وفي التطليق لعدم الإنفاق نجد المادة 102 من مدونة الأسرة التي تنص في فقرتها الثانيـة على أن المحكمة عليها أن تحدد للزوج أجلا لا يتعدى ثلاثين يوما حتى ينفق خلاله و إلا طلقت المحكمة عليه إلا في حالة وجود ظرف قاهر و استثنائي.
وفي الفقرة الثالثة مـن نفس المادة تنص علـى أنه إذا امتنع الزوج عن الإنفاق و لم يثبت العجز تطلق المحكمة الزوجة حالا.
وفـي نفس الإطار و احتراما لنفس الفلسفـة التي يرجى منها الإسراع في البت نجد المادة 112 من مدونة الأسرة بالنسبة للتطليق بسبب الإيلاء و الهجر، فالمحكمة ملزمة بالبت بعد ستة أشهر من تاريخ رفع الزوجة طلب التطليق إلى المحكمة.
وفي نفس السياق، نجد المادة 113 من م أ التي حددت الأجل الأقصى في دعاوى التطليـق باستثناء حالة الغيبة في أجل أقصاه ستة أشهر.
إن تحديد آجال من شأنه أن يخلق في نفوس المتقاضيين ارتياحا، و يشجعهم على اللجوء إلى القضاء، لأن التجربة أثبتت أن المساطـر الطويلة لا تبعث على الارتياح و تدخل اليأس في نفوس الأشخاص، كما أنها تفقد الناس الثقة في مرفق القضاء.
ثانيا : التسهيـل علـى المتقاضيـن:
إذا كان النظام القضائي السابق بشأن الأحوال الشخصيـة لم يهتم بجمع شتات أقسامها، فإن التوجيهات الملكية حثت على إدماج جميع الأقسام بقسم واحد حتى يتم تسهيل المأمورية على المتقاضين بشأن كافة النزاعات الأسرية، سواء تعلقت بقيام رابطـة الزواج أو انفصامها أو شؤون القاصرين أوالتوثيق أو قضايا الحالـة المدنيـة، و ذلك من أجل تفعيل نصوص المدونـة و جعل الآجال المسرة بها قابلة لأن تكون آجالا محترمة، و نافذة و ليس شكلية فقط.
إن التسهيل على المتقاضيين لا يشمل فقط جمـع شتات قضاء الأسرة فـي قسـم واحد بل يتعدى إلى التيسير على المتقاضيين من كل النواحي، كالتيسير في ميدان الإثبات، هذا الجانـب الذي كان يشكل عقبة كبيرة في مواجهة الزوجة خاصة في دعوى التطليق، بحكـم أن المشاكـل الزوجية قلما يطلع عليها الغير حتى يشهد عليها، و قد تنبـه المشرع لذلك، حيث فتح المجال لكل وسائـل الإثبات بما فـي ذلك الاستماع إلى الشهود فـي غرفـة المشورة، و هذا ما جاءت به المادة100من مدونة الأسرة التي تنص على أنه:
" تثبت وقائع الضرر بكل وسائل الإثبات بما فيها شهادة الشهود، الذين تستمع إليهم المحكمة في غرفة المشورة...".
بل أن هذا التيسير بلغ إلى حد اعتماد مسطرة الشقاق التي لا تكلف الزوجة أي إثبات بـل ينوب الحكمان عن الزوجين في استقصاء أسباب الخلاف و بذل الجهد لإنهاء النزاع.
إن إقرار قضاء أسري مستقل، ليس الغرض منه السرعة في البت و التسهيل علـى المتقاضيين فقط، و إنما يتعدى ذلك إلى أهداف غير مباشرة تتجلى في تحقيق العدل و الإنصاف و الحفاظ على كيان الأسرة من التفكك.
ثالثا : العـدل و الإنصـاف:
إن روح مدونة الأسرة و إقرار قضاء مستقل تتجلى في تحقيق العدل و الإنصاف، و تحقيق المبادئ التي تسعى المدونة إلى تكريسها رهين بوجود قضاء فعال و نزيه و عدم تحيزه لصالح أحـد الأطراف، فنصوص عديدة وردت في المدونة تسعى إلى تحقيق هذا الهدف، مذو من بينها نجد المادة 41، التي تحث المحكمة على احترام الشروط الإسثتنائية للتعدد.
ومن بينها أيضا، نجد ترسيخ دور القضاء في عملية الفرقة أنواعها، و حتى علـى مستوى الطلاق، إذ نجد ضرورة مراقبة القضاء لعملية الطلاق منذ بدايتها إلى نهايتها و هذا يظهر من خلال المواد من 78 إلى 89 إذ تواكب المحكمة العمليـة منذ تقديم الطلـب إلى محاولة الصلح و تحديد المستحقات و توثيق رسـم الطلاق حتـى إصدار قرار معلل قابل للطعن وفق الإجراءات العادية، بل أكثر من ذلك فقـد أوكل المشرع النظـر في التطليق و الطلاق علـى حد السواء للمحكمة التي تتكون من ثلاثة قضاة لتوفير ضمانات أكثر.
وعلى اعتبار كون مدونة الأسرة تسعى إلى إنصاف المرأة، و حمايـة كرامـة الرجـل و ضمان حقوق الطفل، فإن هذا الأخير أيضا تم إنصافه بأن أصبح مـن التزامات القضاء تقديـر تكاليف سكنى المحضون مستقلة عن النفقة و أجرة الحضانة و غيرها، و هو ما أقرته المادة168 من مدونة الأسرة، مع مراعاة مصلحة المحضون في إسناد الحضانة (المادة 170 من مدونة الأسرة).
رابعا : الحفـاظ علـى كيـان الأسـرة مـن التفكـك:
يتجسد مبدأ الحفاظ على كيان الأسرة من التفكك من خلال تفعيل مسطرة الصلح. فرغم أن الطلاق الموقع من أحد الزوجين مباشرة مرهون بالإذن القضائي، و بالرغم من أن القصد من هذا الإذن هو الحد من اللجوء للطلاق إثناء العازمين عليه و إصلاح ذات البين بينهما،فإن هذا الإجراء المحدث بمقتضى تعديل 1993 ، لم يقدم عمليا، خدمات تذكـر للأسرة، و ذلك لعدة اعتبارات من بينها كثرة الملفات بما لا يسمح للقضاء بإفراد الوقت الكافي لكل ملف و محاولة التعرف على أسباب الخلاف الحقيقية، و إيجاد حل لها.
من جهة أخرى ، و بالنظر لعدم توفر الأجهزة و الأطر الكافيـة القادرة علـى ردم الخلاف و إيجاد الحلول بطريقة عملية متينة، نجد مهمة القضاء في هذا الشأن محدودة جدا، بالتالي تنحصر مسطرة الصلح في أحيان كثيرة في محاولات سطحية.
ولقد أولى مشرع مدونة الأسرة لمسطرة الصلح أهميـة كبرى حفاظا على كيان الأسرة من التفكك، و تتدخل في مسطرة الصلح ثلاث مؤسسات تتمثل في:
٭- القاضي.
٭- الحكمين.
٭- مجلس العائلة.
فالمدونة الحالية وسعت من الصلح و أعطت القضاء كامل الصلاحية في اختيار أي مؤسسة للصلـح دون قيد أو شرط، بل توسعت إلى أبعد مـن ذلك إذ فتحت المجال لكل من تراه مؤهلا لإصلاح ذات البين ( المادة 82 من مدونة الأسرة )، و بذلك منحت القضاء حرية تامة، الغرض منها هو الإصلاح و إنقاذ الأسرة.
و مما يدعم توجه المشرع في الحفاظ على هذا الكيان أن المحكمة تقوم بمحاولتين للصلح تفصل بينهما مدة لا تقل عن ثلاثين يوما في حالة وجود أطفال.
ومع ذلك يمكن القول، أنه يجب تأهيل القضاء الأسري لأنه يعتبر تأهيلا للقضاء ككل ، بدليل أن القضاء الأسري هو جزء من الكل ، وذلك للاعتبارات التالية :
1- إن أقسام قضاء الأسرة استطاعت مع مرور الوقت أن ترسي ذاتها كقضاء مستقل وفعال لتحقيق المكاسب التي جاءت بها مدونة الأسرة .
2- تسريع تحديث وتأهيل قضاء الأسرة خاصة بعد مرور أزيد من ثماني سنوات بع صدور مدونة الأسرة.
3- إن أهمية أقسام قضاء الأسرة ترجع كذلك إلى عدد القضايا المسجلة أمامها والتي تمثل 1/3 القضايا الرائجة أمام المحاكم الابتدائية .
وعليه، فإننا ننوه بمجهودات قضاة الأسرة التي تتوج في أغلب القضايا بنجاحهم في مهمة الصلح والتصالح، غايتهم المثلى تحقيق الهدف المنشود ألا وهو لم شتات كل أسرة تعيش وضعية صعبة ، وإيمانهم الراسخ بأن الاحتكاك اليومي لقاضي الأسرة بالمجتمع ودرايته بالمشاكل المجتمعية وكيفية علاجها من خلال الاطلاع على كل من علم النفس وعلم الاجتماع من شانه أن يساعد على البت في القضايا المعروضة عليه بحكمة وتبصر، بدليل أن القاضي ذو وظيفة اجتماعية تفرض عليه الالتصاق بالواقع الاجتماعي متجاوزا الدلالة الحرفية والضيقة للنصوص في اتجاه الملائمة بينها وبين الواقع الاجتماعي .
الفقرة الرابعة:الأقسام المتخصصة في الجرائم المالية
من المسلم به أن الفساد يهدد استقرار المجتمعات بالنظر إلى ما ينجم عنه من عدم الثقة في المؤسسات والقانون، وما يؤدي إليه ذلك من إفراغ كل مخططات الإصلاح والتنمية من محتواها ، نتيجة تراجع سيادة القانون.
و رغم الخلاف حول طبيعة الوظيفة القضائية وما إذا كانت وظيفة علاجية أم وظيفة وقائية أم الاثنين معا ، فإن الأكيد أن دور القضاء في مكافحة جرائم الفساد يبقى مهما ويتراوح بين الدور العلاجي المتمثل في الردع الخاص من خلال المحاسبة والعقاب واسترداد الأموال وبين الدور الوقائي المتمثل في الردع العام.
و في هذا السياق فإن نهوض السلطة القضائية بتطبيق القانون بكل حياد وتجرد مع استقلالها عن السلطتين التشريعية والتنفيذية يجعلها أكثر كفاءة وقوة لكشف جرائم الفساد ومعاقبة مرتكبيها، لذلك فإن محاربة الفساد تمر حتما عبر توفير عدالة جنائية فعالة تكفل مبدأ عدم الإفلات من العقاب، وهو ما يمكن تحقيقه من خلال إحداث قضاء متخصص ملم بتقنيات المحاسبة وآليات المراقبة لحماية المال العام.
ذلك أن التدبير الجيد للشأن العام يستلزم ترشيد الإدارة لمواردها المالية، وإقرار نظام مؤسساتي وقانوني كفيل بضمان حماية فعالة للمال العمومي، وفي هذا الإطار تم إحداث أقسام متخصصة في الجرائم المالية بأربع محاكم استئناف كآلية حقيقية تجسد انخراط المغرب في تكريس مبادئ الشفافية واحترام القانون والمصلحة العامة وإرساء قواعد الحكامة القضائية الجيدة وضمان الأمن المالي.
وقد تم إحداث هذه الأقسام المتخصصة بمحاكم الاستئناف في كل من الرباط، والدار البيضاء، وفاس، ومراكش لتسريع البت في قضايا الفساد المالي. وأن إحداث هذه الأقسام، في إطار مراجعة قانون التنظيم القضائي، يأتي لمواجهة تراكم وطول المدة التي يستغرقها النظر في قضايا الجرائم المالية، بما فيها تلك التي تمت إحالتها من قبل المجلس الأعلى للحسابات، خاصة بعد توزيعها على مختلف محاكم المملكة إثر إلغاء محكمة العدل الخاصة.
ذلك أن هذه القضايا تتطلب معرفة وتقنيات خاصة بالمالية والمحاسبة وتسيير المجالس الجماعية والصفقات العمومية، مما اضطرت معه وزارة العدل والحريات إلى تكوين 50 قاضيا من النيابة العامة وقضاة التحقيق والمحاكم الابتدائية ومحاكم الاستئناف داخل المغرب وخارجه لكي يتمكنوا من الإلمام بكل ما يتعلق بجرائم الأموال، وهي تلك الجنايات المتعلقة بالرشوة والاختلاس واستغلال النفوذ والغدر وكذا الجرائم التي لا يمكن فصلها عنها أو المرتبطة بها.
ونعتقد أن مثل هذه الأقسام ستخفف العبء عن باقي الغرف الجنائية، ويساهم إحداثها في ترسيخ مبدأ القضاء المتخصص على شاكلة المحاكم التجارية والإدارية في انتظار أن تحدث محاكم مالية، لأن مثل هذه القضايا تتطلب تكوينا خاصا للقضاة الذين يشرفون عليها في جميع مراحل المحاكمة. خاصة أن المفهوم الذي جاءت من أجله ينطوي على تقليص كبير لمفهوم الجرائم المالية بحصرها في ما قد يرتكبه الموظف العمومي أو غيره من جرائم الرشوة والاختلاس واستغلال النفوذ والغدر، وما لا يمكن فصله عنها أو ما ارتبط بها من جرائم، مع وجود جرائم أخرى توصف بالفساد المالي، من قبيل التهرب الضريبي الذي هو مد اليد إلى المال العام عن طريق استعمال الاحتيال للاحتفاظ به، ومن قبيل كل الأفعال المجرمة في القوانين المنظمة للشركات ومدونة التجارة وما يقع، تحت غطائها، من جرائم أموال في إطار مساطر صعوبة المقاولة وجرائم تبييض الأموال وغيرها من الجرائم المالية، التي تتطلب إدماجها في منظومة الجرائم المالية.
ولعل الغاية من إحداث هذه الأقسام تتمثل في بطء إجراءات قضاء التحقيق والذي تسبب في تأخير العديد من القضايا، وخاصة القضايا التي تتعلق بجرائم الأموال الواردة من المجلس الأعلـى للحسابات، وغيرها من قضايا الفساد المالي، وهو ما دفع إلى اللجوء إلى إحداث أقطاب مالية في أربع محاكم استئناف البيضاء والرباط وفاس ومراكش، لكي لا تبقى مثل هذه القضايا موزعة على جميع المحاكم بعد إلغاء محكمة العدل الخاصة. كما أن هذه الأقطاب المالية متخصصة فعلا في جرائم الفساد المالي، لأنها تضم نيابة عامة متخصصة وقضاء تحقيق متخصص وقضاء حكم متخصص ابتدائي واستئنافي، وهو ما سيمكن من عقلنة التنظيم القضائي والرفع من النجاعة القضائية ، وتسريع البت في قضايا الفساد المالي، وفق الشكل الذي يليق بالمكانة الدستورية للسلطة القضائية، ويأخذ بعين الاعتبار المقولة التي تقضي بأن القاضي إذا لم يكن متخصصا في المسائل المالية يمكن أن يدين بريئا أو يبرئ مدانا.
وتجدر الإشارة، أن المجلس الحكومي صادق في أكتوبر من سنة 2012 على مرسوم إحداث الأقسام المختصة بالجرائم المالية لتوفير قضاء متخصص، تطبيقا لمقتضيات الفصل السادس من الظهير الشريف رقم 338-74-1، الصادر في 15 يوليوز 1974، المتعلق بالتنظيم القضائي للمملكة، كما وقع تغييره وتتميمه بمقتضى القانون رقم 10-34، والذي أحدث أقساما للجرائم المالية في عدد محدد من محاكم الاستئناف للنظر في الجنايات المنصوص عليها في الفصول إلى 256 من القانون الجنائي وكذا الجرائم التي لا يمكن فصلها عنها أو المرتبطة بها. وتم التأكيد على أن إحداث الأقسام المختصة بالجرائم المالية يهدف إلى توفير قضاء متخصص يعمل في إطار القواعد العامة ودون إدخال أي إجراءات استثنائية، مع ضمان تأهيله ومده بالإمكانيات المادية والبشرية المتخصصة والمؤهلة، وهو ما سيسهم في إيجاد الحلول للإشكاليات القانونية والتقنية والمعروضة على هذا النوع من القضاء للبت في آجال معقولة، مما يمكنه من أداء مهمته على الوجه الأكمل، ويكون في مستوى مواجهة ما يتطلبه تخليق الحياة العامة، وحماية المال العام من حزم وفعالية.
ولتعيين عدد محاكم الاستئناف المختصة للنظر في الجرائم المذكورة أعلاه، تمت مراعاة عدد القضايا المعروضة على محاكم المملكة، وأهميتها، وتجربة الأطر القضائية بها، كما تمت مراعاة البعد الجغرافي عند تحديد دوائر نفوذ هذه المحاكم.
ويكاد الإجماع على أن هذه الأقسام المتخصصة قد ساهمت منذ بداية انطلاق عملها في مكافحة الفساد وفق مقتضيات الاتفاقيات الدولية التي صادق عليها المغرب، ومبادئ الدستور الجديد الذي يربط المسؤولية بالمحاسبة.
لذا ينبغي وضع قواعد واضحة لشفافية تدبير المال العمومي، ودعم جهود المؤسسات المستقلة للمراقبة، وتأهيل مختلف الجهات المشاركة والمساعدة في العمل القضائي، كالضابطة القضائية والخبراء، وتشجيع ودعم آليات الرقابة الشعبية من مكونات المجتمع المدني وسائل الإعلام.
الفقرة الخامسة :أقسام قضاء القرب
في إطار حرص المملكة المغربية على جعل القضاء قريبا من المتقاضين وفي خدة المواطن، فقد انطلق العمل بأقسام قضاء القرب”، في جميع المحاكم الابتدائية، تنفيذا للقانون المتعلق بتنظيم قضاء القرب المعدل لظهير التنظيم القضائي الجديد للمملكة. وأن “ما يقارب 224 قسما لقضاء القرب بدأت في العمل في جميع المحاكم الابتدائية ومراكز القضاة المقيمين، كقضاء بديل لمحاكم الجماعات والمقاطعات، وتفعيلا لقانون قضاء القرب، الرامي إلى تقريب القضاء من المتقاضين، لمعالجة المنازعات والمخالفات البسيطة، وتسريع إجراءات البت في القضايا، وفق مسطرة مبسطة”.
كما أن بداية العمل بأقسام قضاء القرب “يأتي لتقريب القضاء من المواطنين، إذ تعقد جلسات داخل هذه الأقسام، فضلا عن جلسات تنقلية إلى عدد من المناطق للنظر في القضايا، التي تدخل في إطار اختصاص هذه الأقسام، إضافة إلى تمركز عدد من كتاب الضبط في محاكم الجماعات والمقاطعات لتسجيل الملفات، ونقلها إلى أقسام قضاء القرب.
وتتألف أقسام قضاء القرب من قاض أو أكثر، وأعوان لكتابة الضبط أو الكتابة. وتعقد الجلسات بقاض منفرد بمساعدة كاتب للضبط، دون حضور النيابة العامة. كما يمكن عقد جلسات تنقلية بإحدى الجماعات الواقعة بدائرة النفوذ الترابي لقسم قضاء القرب للنظر في القضايا، التي تدخل ضمن اختصاص قضاء القرب، في حين، تسند الجمعية العمومية البت في القضايا التي تندرج ضمن قضاء القرب للقضاة العاملين بالمحاكم الابتدائية ومراكز القضاة المقيمين.
ويكلف رئيس المحكمة الابتدائية، أو من ينوب عنه، قاضيا للنيابة عن قاضي القرب في حالة غيابه، أو عند ظهور مانع قانوني يمنعه من البت في الطلب، أي أن نظام القضاء الفردي هو المعتمد أمام أقسام قضاء القرب كما هو الشأن بالنسبة للمحاكم الابتدائية.
وتكون جلسات أقسام قضاء القرب علنية، وتصدر الأحكام باسم جلالة الملك، وتضمن في سجل خاص بذلك، كما تذيل بالصيغة التنفيذية.
ويشمل اختصاص أقسام قضاء القرب النظر في القضايا التابعة للاختصاص الترابي للجماعات المحلية الواقعة بالدائرة الترابية للمحاكم الابتدائية، والقضايا التي تدخل في اختصاصها الترابي الجماعات المحلية الواقعة بالدائرة الترابية لمركز القاضي المقيم.
وتختص هذه الأقسام، حسب القانون المحدث لها، بالنظر في الدعاوى الشخصية والمنقولة، التي لا تتجاوز قيمتها مبلغ 5000 درهم، لكن دون النظر في النزاعات المتعلقة بمدونة الأسرة والعقار والقضايا الاجتماعية والافراغات، ويمتد اختصاصها إلى البت في المخالفات، على أن لا تتعدى العقوبة، التي يمكن الحكم بها، مبلغ 1200 درهم كغرامة.
كما يمكن لقضاة القرب البت في ملفات زجر المخالفات حين لا تتعدى العقوبة، التي يمكن الحكم بها سقف 1200 درهم كغرامة.
وتحظى مقررات قضاة القرب بالصبغة الإلزامية، وهي غير قابلة للطعن، في حين، يمكن طلب إلغائها في حالات خاصة أمام رئيس المحكمة.
وحدد القانون أجل البت في القضايا المعروضة على قضاة القرب في 30 يوما، وأسند للسلطة الإدارية المحلية، وعند الاقتضاء للمفوضين القضائيين، مهمة تنفيذ وتبليغ القرارات والأحكام الصادرة.
وتأتي هذه الأقسام، التي سبق أن أعلنت عنها وزارة العدل والحريات في إطار ملائمة قانون المسطرة المدنية وقانون المسطرة الجنائية مع القانون المتعلق بالتنظيم القضائي للمملكة، من أجل تقريب القضاء من المتقاضين، بمفهومه الحقيقي، وبعده الحقوقي.
ومع ذلك، يرى بعض الباحثين أن هذه الأقسام المستحدثة لا تشكل سوى صورة طبق الأصل لمحاكم الجماعات والمقاطعات الملغاة، مع فارق رفع الاختصاص القيمي من ألف درهم بالنسبة للمحاكم السابقة الى خمسة آلاف درهم بالنسبة لأقسام قضاء القرب.
بيد أنه يمكن القول أن المشرع لم يمنح لأقسام قضاء القرب بعض الإختصاصات التي تشكل خطورة على المراكز القانونية للمتقاضين، والتي كانت موكولة سابقا لمحاكم الجماعات والمقاطعات، كالنظر في طلبات الوفاء بالكراء وفسخه لعدم أداء الوجيبة الكرائية، وكذا التدابير التي تضع حدا للاحتلال الحال والمانع من الإنتفاع بحق الملكية (الفصلين 22 و 23 من ظهير 15 يوليوز المتعلق بتنظيم محاكم الجماعات والمقاطعات.
وحيادا عن مقتضيات الفصل 16 من قانون المسطرة المدنية،المتعلق بالدفع بعدم الاختصاص النوعي ، فإن المشرع قد جعل الاختصاص النوعي لأقسام قضاء القرب - شأنها شأن أقسام قضاء الأسرة – يعد من النظام العام ، تثيره المحكمة من تلقاء نفسها في أي مرحلة من مراحل التقاضي.
وبناء عليه، فإنه لا يجوز للأطراف عرض نزاعهم على غرفة أخرى إذا كان القانون يسند الاختصاص في موضوع النزاع إلى أقسام قضاء القرب.
وبالرغم مما يقال عن هذا التعديل التشريعي، فان محاكم القرب عملت فعلا على تقريب القضاء من المتقاضين، ومكنتهم من الاستفادة من مجانية الرسوم القضائية، والسرعة في البت في النزاع ، ومباشرة إجراءات التبليغ والتنفيذ داخل أجل معقول.
الفقـرة السادسة :المحاكـم المصنفـة
جدير بالذكر، أن المشرع المغربي أضاف فقرة جديدة للفصل الثاني من قانون التنظيم القضائي الذي يحدد تأليف المحكمة الابتدائية جاء فيها ما يلي :
" يمكن تصنيف المحاكم الابتدائية حسب نوعية القضايا التي تختص بالنظر فيها إلى محاكم ابتدائية مدنية ومحاكم ابتدائية اجتماعية ومحاكم زجرية : تقتسم المحاكم الابتدائية المدنية إلى أقسام قضاء القرب وغرف مدنية وغرف تجارية وغرف عقارية.
تقسم المحاكم الابتدائية الاجتماعية إلى أقسام قضاء الأسرة، وغرف حوادث الشغل والأمراض المهنية وغرف نزاعات الشغل.
تقسم المحاكم الابتدائية الزجرية إلى أقسام قضاء القرب وغرف جنحية وغرف حوادث السير وغرف قضاء الأحداث".
والملاحظ أولا أن المشرع استعمل عبارة "يمكن" والتي تفيد الجواز أي انه ليس بالضرورة تصنيف المحاكم الابتدائية حسب نوعية القضايا التي تختص بالنظر فيها إلى محاكم ابتدائية مدنية ومحاكم ابتدائية اجتماعية ومحاكم ابتدائية زجرية ولكن يمكن ذلك متى كانت المصلحة والشروط تساعد على إقرار هذا التصنيف.
وعندما يعتمد ذلك التصنيف يتم اللجوء إلى الفقرات الموالية حيث تقسم المحاكم الابتدائية المصنفة إلى ما يلي :
* المحاكم الابتدائية المدنية وتضم :
- أقسام قضاء القرب.
- غرف مدنية وتجارية وغرف عقارية.
* المحاكم الابتدائية الاجتماعية وتضم :
- أقسام قضاء الأسرة.
- غرف حوادث الشغل والأمراض المهنية.
- غرف نزاعات الشغل.
* المحاكم الابتدائية الزجرية وتضم :
- قضاء القرب.
- غرف جنحية.
- غرف حوادث السير.
- غرف قضاء الأحداث.
ولعل هذا التقسيم بدوره سينال حظه من الدراسة والانتقاد وذلك لمعرفة مبرراته ودواعيه ومدى انسجامها مع الواقع وهل تتوفر المقومات الضرورية والموضوعية لذلك أم لا؟ وهل يمكن تمييز عقلية القاضي المدني أو التجاري أو العقاري عن عقلية القاضي الاجتماعي وقاضي الأسرة علما بان حالات عدة ومحاكم عدة يكون فيها القاضي المدني هو نفسه القاضي الاجتماعي أي يبث في غرفة مدنية ثم يبت في غرفة نزاعات الشغل أو قسم قضاء الأسرة، لذلك فاننا نقترح تعزيز تكوين قضاة كل نوع من المحاكم الابتدائية المصنفة تكوينا قانونيا ونفسيا يتلاءم مع الاختصاص الذي سيوكل إليه لتحقيق فلسفة هذا التصنيف لان النظام العام في القواعد العامة للقانون المدني ليست هي نفسها قواعد النظام العام الاجتماعي ولا هي قواعد النظام العام الأسري أما واقع الحال فقد أفرز نتائج إيجابية للمتقاضين منذ بداية العمل بالمحاكم المصنفة في سنة 2011 كتجربة أولى بالدار البيضاء، ليتم تعميم هذه التجربة في حالة نجاحها على جميع محاكم المملكة.
ونظرا لأهمية قانون التنظيم القضائي سيكون من المفيد والأنسب تغيير قانون التنظيم القضائي كما فعل المشرع البلجيكي مع بداية سنوات الألفين والذي اخذ منه إعدادها وقتا طويلا ، إذن فالمطلوب العمل على إعداد مدونة للتنظيم القضائي تساير مستجدات الدستور الجديد في مجال القضاء بتصور عام للمنظومة القضائية، ويأخذ بعين الاعتبار أولويات المرحلة واحتياجات المتقاضين الذين يثقون في مرفق القضاء تبعا لما ستسفر عنه توصيات الهئية العليا للإصلاح الشامل والعميق لمنظومة العدالة.
إعداد:الدكتور حسن فتوخ _قاض بمحكمة النقض وأستاذ بالمعهد العالي للقضاء
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق